ويبقى المستهلك ضحية الاحتكارات

منذ نشوء دولة لبنان، سال حبر كثير يشرح كيف أن «تركيبة» البلد الطائفية صممت كي يبقى الفرد تابعا لطائفته ولزعيمها على حساب تحوّله إلى مواطن، ينتمي للوطن ودولته. إلا أن أقلاما قليلة تناولت «تركيبة» البلاد الاقتصادية التي صممت لتطويق الفرد وتحويله إلى مجرد مستهلك لا يعي أنه قادر على التأثير في السوق، على رفض ما يعرض عليه وفرض ما يحتاج اليه، نوعا وكما، وصولا إلى التأثير على الأسعار المفروضة عليه بلا أي قواعد.
وإذا كان «لبنان الرسمي» قد نجح في تغليب «ابن الطائفة» على «المواطن» لحسابات سياسية وانتخابية معروفة، وكي يتمكن كل «زعيم» من الحفاظ على زعامته المبنية على التبعية الطائفية، فإن «لبنان الرسمي» ذاته قد عمل على تجهيل «المستهلك» المحلي، واستمرّ في محاربة إدراكه مدى قدرته على التأثير، لأن للبنان الاقتصادي «زعماءه» أيضا، زعماء تقاسموا السوق، ويعملون على الحفاظ على مواقعهم وحصصهم فيها. وقد التقى الطرفان، السياسي والاقتصادي، في سعيهما للحفاظ على ما بني على حساب اللبنانيين، وهو لقاء وصل إلى حدّ التماهي.

تعلو الصرخة، في المواسم، لدى تنبّه المستهلك لارتفاع أسعار السلع والخدمات المعروضة عليه. لكن، في معظم الأحيان، يمكن لارتفاع الأسعار أن يمرّ مرور الكرام على مستهلك لا يؤمن بجدوى الاعتراض، ولا يملك خيارات بديلة.
إلا أن الارتفاع في أسعار السلع في لبنان لم يتوقف يوما، وإن اختلفت نسبته ووتيرته، وهو إجراء لا يرتبط بالضرورة بقاعدة السوق (العرض والطلب)، أو بالأسعار العالمية، بل يعود لجملة من الأسباب المحلية المحض التي يكرسها غياب سياسات اقتصادية اجتماعية تحمي المستهلك في لبنان من الفلتان الاقتصادي والاحتكارات والفوضى القائمة.

ويرى رئيس جمعية «حماية المستهلك» الدكتور زهير برو لـ«السفير» أن «مكامن الخلل الأساسي التي تجعل المواطن يرزح تحت ذلك الكم من الأعباء الاقتصادية، تعود إلى الأوضاع السياسية في لبنان، وطبيعة النظام نفسه الذي يكرّس غياب معظم القوى السياسية عن القضايا الاجتماعية والاقتصادية، التي لا تحتل إلا حيزا ثانويا في برامجهم، وذلك في حال وجدت فيها أصلا».
ويشرح برو أنه على الرغم من أن «الصراع السياسي الطائفي، والاقتتال على نفوذ كل طائفة بالإضافة إلى القضايا الخارجية تعتبر هي المحرك الأساسي للقوى السياسية في لبنان، إلا أن ذلك كله يُستخدم كغطاء للصراع الفعلي، المتمثل في السيطرة على أكبر قدر ممكن من ممتلكات الدولة.»
بمعنى آخر، فإن «القطاعات الاقتصادية هي من أبرز اهتمامات السياسيين، لكن بهدف السيطرة عليها، وليس لتطويرها وإفادة المواطن وحماية المستهلك»، بحسب برو الذي يلفت إلى أن «المواطن غافل في الغالب عن تلك الحقيقة، فهو يظن أن القوى السياسية تتقاتل على قضايا سياسية بحتة، في حين أن تلك الأخيرة لا تُشكل أكثر من غطاء لمطامعها المادية».  
ويعمد الساسة إلى خطوات محددة لضمان استمرار سيطرتهم الاقتصادية «عبر تعطيل المؤسسات والقوانين الموضوعة للاهتمام بحماية المستهلك ومراقبة الوضع الاقتصادي، ومنها تعطيل المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وتعطيل «محكمة المستهلك» التي أنشأت في العام 2005 ولم تُفعّل بعد، وهي تتيح، بقرار من وزير الاقتصاد، البت السريع في قضايا خلافية بين المستهلك والمحترف، بدلا من أن تتحول القضايا إلى المحاكم الجزائية.
كما يستمر تعطيل قانون الإغراق الذي يعتبر جزءا من القوانين الخاصة بقضايا الاحتكار وتعزيز المنافسة، وتكمن أهميته في كونه يحقق توازنا في السوق ويمنع سيطرة أطراف معينة عليها. بالإضافة إلى كل ذلك، يستمر منع تفعيل «مجلس الاعتماد اللبناني»، الذي تتلخص مهمته بالإشراف على المختبرات ويوافق على اعتمادها، ويحسن البنية التحتية للنوعية. أما «قانون المنافسة» ومنع الاحتكارات العتيد، فلم يقرا بعد.

ويُعتبر الدور الأساسي لتلك المؤسسات، بحسب برو، هو «تحقيق استقرار البلد وحياة المواطنين فيه ومراقبة أسعار حاجاتهم الأساسية من غذاء وماء وكهرباء وتعليم وتربية واتصالات ومواصلات».
وسط ذلك التعطيل المتعمد، يستشري الغلاء وتسود الفوضى المتشعبة التي تسم الوضع الاقتصادي. ويكسر غياب (أو تغييب) المؤسسات والقوانين التوازن الضروري بين المواطنين المستهلكين وبين مقدمي الخدمات والسلع (التجار، الصناعيين، ومؤجري الخدمات في القطاعين الخاص والرسمي).
ويسأل برو «كيف تمكن حماية المستهلك من ارتفاع الأسعار، في ظل الاحتكارات المعلنة (القانونية)، وصولا إلى الاحتكارات غير المعلنة؟ فالنظام الاقتصادي اللبناني يكرّس الاحتكارات ويعطي نفوذا لقوى محددة للتحكم بالأسعار، ويمنحها حرية الحركة، والاستيراد بعيدا عن أي ضوابط قانونية، وهو ما يجعل الأسعار في لبنان مرتفعة وتتخطى أسعار السلع في المنطقة.
ويشير برو إلى أن «إحصاءات البنك الدولي والاتحاد الأوروبي توضح أن أسعار لبنان تزيد بنسبة 25 في المئة عن أسعار دول المنطقة بما في ذلك دول مثل تركيا وقبرص!».
وبرأي برو فارتفاع الأسعار في لبنان ليس ناتجا عن «صدفة»، وليس وليد أسباب طبيعية أو ظروف عالمية، بل هو ناتج عن «سياسات اقتصادية واجتماعية مدروسة ومكرّسة، وضعتها جهات تعرف من «أين تؤكل الكتف»، أولوياتها حماية الفئات الاقتصادية التي تتحكم بالسوق، وهي أقلية، ودعمها لاستمرار تأمين مصالحها على حساب الأكثرية (المستهلكة)».

ولا يُطبق أي من ذلك بشكل عبثي، أو لا بسبب «إهمال «الفئات السياسية»، بل على العكس، فإن غالبية القوى السياسية تضع سياساتها عن وعي وإدراك لنتائجها. وبالتالي لا تفرض ضرائب على أرباح العقارات، أو على الشركات الكبرى، والكل يعلم أن لدى أكثر من مئة شركة كبرى في لبنان أكثر من دفتر لتقديمه لوزارة المالية مدعية الخسارة السنوية لإعفائها من الضرائب».
يضيف برو «إحدى السياسات التي تؤدي إلى ارتفاع كبير في الأسعار هي فرض تسعين في المئة من الضرائب على الاستهلاك بما يؤثر بشكل مباشر على الفئات الاجتماعية الأفقر».
ولذلك كله، يؤكّد برو أن «مقاربة وزير العمل شربل نحاس كانت مختلفة تماما عما وصلت إليه التسوية الأخيرة لزيادة الأجور، إذ كانت تقدم رؤية متكاملة لتصحيح الوضع الاقتصادي في البلاد، عبر ربط التقديمات الاجتماعية بتصحيح الأجور لأن تأمين الرعاية الصحية يخفف الأعباء على ميزانيات العائلات من الطبقات الاجتماعية المتوسطة والفقيرة. كما طال اقتراح نحّاس تأمين فرص عمل للشباب، وفرض ضرائب على الأرباح والمصارف والعقارات بدل أن تقتصر أو تفرض فقط على الإنتاج والاستهلاك.»

أي أن نحّاس سعى، برأي برو، إلى التركيز على «الأجر الاجتماعي» بمعنى المحافظة على قيمة الأجور عبر زيادة الخدمات وتحسينها، وليس فقط على زيادة «الأجر النقدي».
ويرى برو أنه «لا بد من العودة لمناقشة مشروع وزير العمل، وإضافة بعض البنود عليها، بينها معالجة قطاع النقل وكيفية دعمه بشكل يوحد التقديمات الاجتماعية».
ويؤكد برو أن «بناء على كل ما تقدم، فإن حماية المستهلك تبدأ من معالجة التهرب الضريبي، وخاصة من قبل الشركات الكبرى القادرة والمتهربة منها، إذ تشير الأرقام إلى أن ذلك التهرب يكلف الدولة اللبنانية خسائر بقيمة ملياري دولار سنويا كحد أدنى».
أما الخطوة الثانية، فتكون بإقرار قانون ضريبي جديد وفرض الضرائب على العقارات والضرائب على الأرباح، واستيراد الأملاك العامة البحرية وغير البحرية، وإلغاء الاحتكارات، بما يؤمن مداخيل كافية للدولة ويخفف العبء عن كاهل المواطن، ويعفيه من تحمل تكاليف إضافية على السلع، نتيجة عدم السماح بالمنافسة المشروعة. 

السابق
نجح بتغييرها
التالي
عن الاستحالات الجنبلاطية وخريف المختارة!