الضاحية: فوضى وفلتان أمني أم مبالغات أغراضها سياسية؟

مع كل حادث إطلاق نار، أو وقوع إشكال فردي مسلّح في الضاحية، يفتح أهالي المنطقة الباب على أسئلة مكتومة، سرعان ما تنفجر في آن، بدءاً من تزايد الإشكالات الفردية، مروراً باتجار وتعاطي المخدرات في بعض الأحياء، وصولاً إلى غياب المحاسبة الجدّية للمخالفين الذين يطلقون النار أمام الملأ، ثم يعودون إلى مزاولة أعمالهم في اليوم التالي.. كأن شيئاً لم يكن.
ويحمّل سكان الضاحية «بعض الجهات الحزبية الفاعلة» المسؤولية، معتبرين أنها «معنية بتسهيل القبض على هؤلاء، مهما كانت انتماءاتهم، أو تسليمهم باليد إلى القوى الأمنية»، في تعبير مباشر، يحمل في طياته السخط على المخالفين «الذين لا نريد أن نعرف من سيلقي القبض عليهم، بل جلّ ما نريده هو أن يُلقى القبض عليهم ويُحاسبوا كي نرتاح من تصرفاتهم المليشياوية».
وفي حــين تعتبر الجهـات الحزبيـة أنـه «ثمـة مبالغة في تصوير واقع الضــاحية الأمــني حالــياً، لأغـراض سيـاسـية معروفـة»، تحـاول «السفيـر»، مـن خـلال طـرح الموضـوع، تسليـط الـضوء علـى بعض الثغـرات التي تشوب منطقة لبنانيـة، عسى أن يتحـرّك المعنيون لسـد الثـغرات.. الآخــذة في التشعّب.
قصد شاب عشريني أحد الأشخاص في منطقة «برج البراجنة»، عارضاً عليه بيع دراجة نارية صغيرة الحجم. وقبل الاتفاق على سعر الدراجة، سأل الشاري: «هل ثمة أوراق تثبت قانونية الدراجة؟»، فأجابه البائع، بثقة واضحة: «نعم، لكنها أوراق موقف».
استغرب الرجل، وطلب التوضيح: «ماذا تعني بأوراق موقف؟ هل هذه أوراق جديدة اعتمدتها وزارة الداخلية؟»، فردّ عليه العشريني:« كلا. إنها أوراق تفيد بأن الدراجة سُرقت من موقف بناية». ازداد استغراب الرجل، ظناً منه أن الشاب أطلق دعابة، غير أن الأخير تشبث بإفادته، مردفاً: «يا رجل، أنت في الضاحية».
ينسحب جواب الشاب على نماذج عدة، لا تنحصر في سرقة الدراجات المنتشرة في مناطق لبنان كافة فحسب، بل تصل إلى حد يصنفه سكان الضاحية، وبالتحديد سكان الأحياء العشوائية (عين السكة، وعين الدلبة، وبعض الأحياء في الشياح والغبيري والحيّ الأبيض والليلكي والرويس) في خانة «الممنوعات المشروعة»، التي ما عادوا يستطيعون تحمّل أعبائها.
فإذا كانت حوادث السرقة تنعكس سلباً على أصحابها حصراً، فإن أضرار تعاطي الحبوب المخدّرة لا تنحصر بـ«المتعاطي»، بل ترمي بسهامها على أبناء المنطقة: ثمة حبة دواء، بات لقبها «ريفو» (أصلها ريفوتريل وسعر أنبوبها زهيد)، تشتهر اليوم بفعاليتها لـ«المشاركة في إشكال بروح إجرامية».
يقول م. س.، ابن منطقة «برج البراجنة»، ان حبة الدواء ذائعة الصيت، تحوّلت إلى «طقس يستخدمه أفراد بعض المجموعات، للتمتع برباطة جأش وقوة، فيما حبة «ترامال» أصبحت تستخدم كمخدّر يهدئ من روع شخص سريع الانفعال والغضب».
يؤكد الرجل، الذي تربطه علاقات وثيقة بـ«الشباب»، تنامي ظاهرة تعاطي الحبوب عند الفتيان الذين تتراوح أعمارهم بين الثالثة عشرة والثامنة عشرة عاماً، مشيراً إلى أنهم يتعاطونها بدافع الفضول أولاً، ثم التبجح أمام الأكبر سنا الذين يروّجون للحبوب، ثانياً.
والغريب أن هؤلاء، شباناً وفتيانا، لا يتعاطون الحبوب في منازلهم أو «على السطوح، كما كنا نفعل سابقاً، عندما كنت مدمناً»، بل إنهم، وفقاً لزعيم المجموعة السابق، يتناولون الحبوب «خلف سيارة في زاوية الحي، أو على مدخل بناية يدركون أن سكانها يخافون النظر في وجوههم».
يستشهد م. بإشكال وقع في «برج البراجنة» قبل حوالى شهر: امتعض شاب من صديقه، بسبب خلاف شخصي، فنزل إلى الشارع وبدأ يطلق النيران من سلاحه الحربي، باحثاً عن أي شخص لضربه. الإشكال عادي، لأن الجيران تعودوا عليه، وملّوا من الشكوى. لكن اللافت، هو تعاطي الشاب لحبوب الريفو علناً. وهو في العادة بلا الحبوب، يخاف من رؤية هرّ».
ومما يزيد في فداحة «الفلتان الأمني» في الضـاحية، حوادث يستشهد بها كثيرون: «حاول، في حال وقع إشكال في الشياح أو الرويــس أو الأوزاعي مثلاً، أن تتصل بالمخــفر المعني، وسجّل جواب عناصر المخفر على هاتفك الخــلوي» يقولون. ولدى المحــاولة، يأتي جواب مسؤول المخفر: «لا تعاود الاتصال مرة ثانية».
يروي ع. ع.، وهو ثلاثيني يقطن في منطقة الغبيري، ان حيّه شهد قبل حوالى شهر «معركة حيّة بالأسلحة الرشاشة، تشبه كثيراً المعارك التي يلعبها ابني على البلاي ستايشن: فريقان يلاحق واحدهما الآخر، حاملين رشاشات حربية وقنابل، في معركة بدأت بشتيمة، وانتهت بوقوع جرحى، من دون تدخل القوى الأمنية».  

وكسائر الأهالي الذين التقينا بهم ، يشرح ع. أن «الحديث عن الضاحية يقابله أشخاص باتهام المتحدث بالعمالة الإسرائيلية، فيما يكون القصد النقد البنّاء، عوضاً عن «الكبت الذي يمهّد حكما لانفجار». فالضاحية، وفقاً للثلاثيني وهو حزبي سابق، تتحول، يوماً بعد يوم، إلى «ملاذ لأصحاب السوابق، من تجار مخدرات إلى شبان يشهرون أسلحتهم بوجوه المارة لسوء مزاجهم الصباحي، ثم يمضون أحراراً من دون محاسبة».
في المقابل، تؤكّد القوى الحزبية الفاعلة في الضاحية، «استمرار مكتب مكافحة المخدرات بمداهمة التجار أينما كانوا، علماً بأن ظاهرة تفشي آفة المخدرات ليست محصورة في الضاحية فقط، بل منتشرة في مناطق لبنان كافة، وتقع المسؤولية، أولاً، على الأهالي الذين يتراخون في محاسبة أولادهم».
تتسلّح القوى الحزبية في المنطقة بأكثر من رد، أولها العامل الديموغرافي للضاحية: «في إحصاء أجرته شركة أميركية في العام 1994، تبيّن أن عدد سكان الضاحية يبلغ 750 ألف نسمة، ما يعني أن العدد، اليوم، جاور المليون نسمة، في شعاع مساحته 18 كيلومترا مربعا. وثمة نصف رجل أمن رسمي لكل ألفي مواطن، بالإضافة إلى أن الأهالي تعودوا على إهمال الدولة لهم».
وتنفي القوى الحزبية «وجود أي غطاء فوق أي مخالف» معتبرة أنه «تبرير استساغته بعض القوى الأمنية، كي لا تقحم نفسها مع أشخاص تتلقى منهم الرشى لقاء حمايتهم، والدليل أننا طلبنا من القوى الأمنية كافة بسط سلطتها في المناطق كلها، لكن ثمة عناصر وضباطا يتذرعون بحجج واهية».
وتشير القوى الحزبية إلى وجود «خطة قيد الإعداد، يشارك فيها ممثلون من المجتمع المدني بالتعاون مع البلديات والقوى الأمنية»، لافتة إلى أن «الإعلان عنها رسمياً يتم فور الاتفاق على التفاصيل كافة، مع سائر الجهات المعنية، وهي تهدف إلى معالجة بعض الآفات الاجتماعية».
في المقابل، يشرح مصدر في قوى الأمن الداخلي أن «الأجهزة الأمنية، قبل العام 2005، كانت تقوم بمهامها في نسق عادي، إذ ان الثـقة كانت موجودة بيننا وبين المواطن في الضاحية. إلا أن عمليات التمرّد أخذت مداها بعدما تحولت المؤسسة إلى جهة سياسية، بسبب اتهامات وسائــل إعلام 8 آذار لنا، وبالتالي أصبـحنا، في نظر الأهالي، طرفاً في المعركة السياسية».
يُضاف إلى الصبغة السياسية، وفقاً للمصدر، حادثة ثكنة مرجعيون الشهيرة في حرب تموز، التي «تسلّح بها بعض المخالفين في أثناء فورة البناء، ثم أضيف اليها مقتل طفلين اتهمت القوى الأمنية بقتلهما في الرمل العالي، فاكتملت الصورة: أصبحنا مجرّدين من السلطة، وإذا قررنا فض إشكال، تُرفع الأسلحة بوجوهنا، فنغادر».
وفيما يسرد المصدر أسماء عائلات في الضاحية تفرض ضرائب («خوّات») على محلات تجارية، ومواقف سيارات هي بالأصل ملك لسكان بعض المباني، تنفي القوى الحزبية في المنطقة «هرطقات بعض القوى الأمنية، التي تحمي هؤلاء، بينما نحاول نحن تسهيل مهامها لضبطهم».
إلا أن المصدر يتشبث بالمعلومات المتوفرة عــنده، متــسلحاً بعبارة مفادها «يمكن لأي شخص أن يتجول في الضاحية، ويسأل بعض المحال التجارية عن الضرائب التي يدفعونها لهذه العائلات»، عازياً «سبب تساهل الجهات الحزبية معهم، إلى تخوّفهم من التصادم وبالتالي وقوع إشكالات كبرى».
في المقابل، تؤكد الجهات الحزبية أنها تملك «لائحة بأسماء بعض أفراد القوى الأمنية، ممن يرتشون علناً، وينخر الفساد فيهم. لذلك، فإن تعاوننا المقبل، في الخطة الجديدة، سيكون مدروساً من ناحية الجهات الأمنية ونزاهتها». 

السابق
لماذا رفـع المستقبل لغته ضد ميقاتي؟
التالي
افتتاح المؤتمر الدولي الثالث للتعليم العالي