الفوز ببطولة…جمجمة القدم

كان قد أتم العاشرة من عمره حين وقف تلك الظهيرة على شرفة منزله. قبالته مشهدية سوريالية أدمنها منذ أشهر، يتوالى عرضها شبه اليومي، ولم يملّ. كانت الحرب الأهلية قد اندلعت قبل أشهر. منذ يومين خرج الشاب المقيم في الجهة المقابلة إلى عمله ولم يعد. أمس وجدوه جثة مقطعة الأشلاء، تختزن كل «مدنية» حروب المدنيين. في مهرجان التشييع كان الموت سيد المشهد ومخرجه وبطل الخشبة الوحيد. على صوت أزيز الرصاص وندب النسوة المحترفات وألوان العسكر المستحدث بكل لون، كان له أن يشهد للمرة الأولى فصلاً جديداً مبتكراً من طقوسية الموت اقتتالاً. فجأة، أطل بضعة مسلحين بشارات «الشهيد» وشعاراته، يقتادون ثلاثة فتية مقيدي الأيدي معصوبي الأعين.

رموهم وسط الشارع أمام التابوت. في تلك اللحظة تحول هتاف الناس وصراخ النساء من مشهدية الموت السابق إلى نوع من هذيان وثني في معبد مفتوح لإله دم فاغر الفم. بثوان رفع المسلحون بنادقهم، وانهالوا بالرصاص على الفتية الثلاثة. قتلوهم انتقاماً لشهيدهم، قالوا. لم يعرفوا أسماءهم ولا هوياتهم، ولا حتى وجوههم. كفاهم أنهم من مخلوقات «إله» آخر منخرط في الحرب ضد إله المشيعين، في سياق حروب آلهة الشرق المستدامة. كانت جثث الفتية الثلاثة لا تزال ترتعش حين اكتمل في وعيه الجديد مشهد الموت «الأهلي»: نسوة يرقصن احتفالاً فوق الجثث. أخريات يهللن، وزلاغيط نصر تمتزج مع أنين الأجساد الراعفة تحت الأقدام، وأزيز الرصاص المؤذن بالانتصار النهائي على الأعداء. تماماً كما امتزج الدم البارد للقتلة «الأبرياء» مع الدم الحار للمقتولين الأبرياء أيضاً…

بعد أسابيع قليلة، سقط مخيم اللاجئين القريب هو أيضاً من منزل الطفل. صار مألوفاً لعينيه الصغيرتين مشهد بقايا الجثة المربوطة إلى سيارة مدنية ـــــ عسكرية، تجوب الشوارع المحيطة إعلاناً للفوز، تماماً كما بعد مباراة رياضية، لكرة من جمجمة، ومرمى من أجساد وملعب من وطن وحكَم من صنف «عزازيل». كان الطفل قد اكتشف لعبة الانتصار بالموت.  أنسته حصص التعليم الديني في مدرسته القريبة، عن إلهه المتميز، وتفرده بالانتصار على الموت، لا به. أسطورة إيمانية رائعة كانت في ذهن مناولته الأولى، عن تلك الجريمة الوحيدة في سنة اليهود الصفْر، وعدالتهم الصفر وحقيقتهم الصفر. أسطورة إنسان ثائر، غيَّر العالم الحاضر والآخر، بصفعة تلقاها، وسوط من حبال لمرة يتيمة، ودم ذاتي على صليب، ونهاية مجيدة بالانتصار النهائي على الموت. بعد ألفي عام على تغييره العالم، ناسه و«التلامذة» غيروا الدرس، استبدلوه بالانتصار بالموت، ولو قتلاً، بطقوسية بطولة مزعومة وكرنفالية حرب مجنونة ومشهدية بربرية تليق باللاإنسان، بعد ألفي عام على ابن الإنسان…

كبر الطفل في رجل ذاكرة الحرب والفظائع. اكتشف أن حي طفولته قد كبر معه، حتى صار منطقة كاملة من العالم. كبر وطنه حتى صار الأرض كلها، في زمن عولمة القتل باسم الانتصار، زمن الأممية القايينية وظمأ الدم الحضاري أو الثوري لا فرق. اكتشف الطفل الرجل أن المشهد نفسه عرفته باريس الأنوار حيال مهاجرين جزائريين على ضفاف السين قبل نصف قرن فقط. وعرفته خصوصاً واشنطن، منذ 11 ايلول الأول يوم قتلت هي الليندي في التشيلي، إلى 11 أيلولها الثاني يوم قُتلت هي في نيويورك. وبين التاريخين وبعدهما، لم يخفت إيمان واشنطن لحظة واحدة بعقيدة الانتصار بالموت قتلاً. من صدام في بغداد «المحررة» من موته وقتله، إلى بن لادن في باكستان إلى العولقي في اليمن إلى حقاني في وزيرستان الكايوسية، إلى كل مكان تنهزم فيه أو تربح…

قبل يومين كان العرض الأخير لمهرجان الانتصار قتلاً، في ليبيا. وكاد يكون منقولاً بالصورة الحية للرجل الميت مباشرة على الهواء. قتل القذافي الطاغية دوساً وطعناً وضرباً ورصاصاً من كل عيار. بلا قانون، بلا وصاية حق، بلا آلية عدالة ولو انتقالية، وبلا قوسها ولا دفاعه ولا ادعاء ضحاياه. وحده ادعاء كلينتون ضده قبل ساعات كان كافياً للإعدام الثوري الحضاري، على طريقة الربيع الليبي المنبثق من ربيع السحل القاهري، المرعي من ربيع واشنطن لخريف كل الشعوب المقهورة وشتاء كل الثروات المنهوبة. تصوروا لو سيق بن لادن إلى محاكمة علنية. تصوروا أخباره منذ كان بطل «المجاهدين» المقيم في البيت الأبيض أيام ريغان ونانسي. تصوروا لو مثل طاغية ليبيا وأولاده أمام قضاة وكاميرات، يلقي مطولاته عن تمويل انتخابات ساركوزي، وعن عناقاته المتكررة مع بلير، وقبلة برلوسكوني على يده، وعن مرقص «لا بيل» ومحققها ومحققنا الشهير ديتليف ميليس، وعن لوكربي وما قبل جريمة القتل وما بعد جريمة التسوية. لكل ذلك وحده الانتصار بالموت قتلاً هو الحل، في عولمة لم تعولم غير صرخة البشر: أما شبعتم من قذف الدم بعد؟ 

السابق
مكي: القذافي ارتكب جريمة العصر باخفاء الامام الصدر
التالي
جميل حايك: نسعى لتحرير الامام الصدر في الساعات المقبلة لموقف عربي واحد يتكامل مع القوى الرافضة للمشروع الصهيوني في المنطقة