القدس عاصمة أبديّة..

أعلم، أنا «العكّية» أن أحد أساليب عشق المُدن من جديد، حتى تلك التي ورثنا حبّها من القصص المحكية، ومن الذكريات الشفويّة والأغاني، يبدأ من خلال عيون «ابن البلد». هو القادر على إدخالك المدينة من باب آخر، له مفتاح لا يملكه من لم يعش في المدينة ذكريات الطفولة والشباب، من لم يعش في زواريبها وأحيائها القديمة. وحين يحكي عنها، وينجح في جعل المستمعين يحبون المدينة من جديد، هو قادر أيضاً على أن يحبّها أكثر حين يحكي.
لي صديق، مقدسي من أصل سلواني (قرية سلوان – قضاء القدس) متعته وواجبه اليومي أن يفتح أبوابا إضافية لأصدقائه القادمين إلى القدس، أبوابا لحبّها من خلال عيونه هو وبالمفاتيح التي يملكها، كأن كلاّ منهم هو سفير لمدينته المحتلة.
القدس، المدينة التي أنشئت في العهد البرونزي، أي قبل حوالى 5 آلاف عام، تعرّضت في نكبة العام 1948 إلى تدمير 38 قرية في القدس الغربية وتهجير حوالى 80 ألف فلسطيني من ديارهم وممتلــكاتهم. وفي العام 1967 قامت إسرائيل بضم مساحة 71 كيلومترا مربعا من أراضي القدس الواقعة في الضفة الغربية إلى القدس الغربية، لتصــبح المساحـة الإجمالية 109 كيلومترات مربعة. ودمّر الاحتلال القرى العربية الثلاث المتبقية في القدس الغربية وهي عمواس، بيت نوبا ويالو ورحّل سكــانها. كما دمّر حي باب المغاربة في البلدة القديمة وهـجّر سكانه إلى مناطق أخرى.
عندها، بلغ عدد المقدسيين في القدس الشرقية حوالى 70 ألف نسمة، يحملون «هوية القدس» ولا يحملون الجنسية الإسرائيلية. ومنذ العام 1967 تسعى إسرائيل بشكل يومي ومكثف إلى تهويد القدس، من خلال مصادرة وابتلاع الأراضي، محو الهوية الوطنية والثقافية للمدينة وتزوير تاريخها بطرق عديدة، آخرها من خلال مناهج التربية والتعليم.
ويعيش المقدسيون أسوأ الأوضاع الحياتية؛ الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية منها، بسبب الاحتلال من جهة وغياب القيادة والمرجعية الفلسطينية عنها من جهة أخرى، في الوقت الذي تستعد فيه السلطة لطلب الاعتراف بدولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية. وامتداداً لسلسلة رصد آراء الشباب الفلسطيني حول «استحقاق أيلول»، من جوانبه المختلفة، يخصص «شباب السفير» هذه الحلقة لآراء الشباب المقدسي.
نواف حلو لاجئ من قرية لفتا المهجرة، يعيش في مدينة الــقدس منذ أن وُلد. يعتبر أن خطوة استحقاق أيلول هي خطوة إيجابــية وقوية من النـاحية الدبلوماسية، بالرغم من أنه يطالب بفلــسطين الكامــلة، من النهر إلى البحر. ولكن بما أن منظمة التحــرير وكامل الفـصائل الفلسطينية قبلت بدولة فلسطينية على حدود 1967، وكونه يؤمن بأن منظمة التحرير هي الممثلة الوحيدة والشرعية للشعب الفلسـطيني، فلذا يرى أن أي خطوة من الممكن أن تخفف معاناة الشعب الفلسطيني هي مرضية بالنسبة إليه. ويضيف: «لست من الأشخاص الذين يعـملون من أجل استحقاق أيلول، لكن أنا أطالب مِن كل مَن يرفض الاستحــقاق أن يقترح علينا بديلاً سياسياً! بالنسبة لي، جحيم السلطة أفضل من نعيم الاحتلال».
بالرغم من موقف نواف حلو الإيجابي تجاه استحقاق أيلول، إلا أن مخاوفه تتمحور حول وضع المقدسيين تحديداً، كونهم عالقين ما بين مطرقة الاحتلال وسندان السلطة الفلسطينية. ويأتي قلقه هذا من غياب القيادة بمستوى منظمة التحرير عن القدس، ويتساءل أين ذهبت ثقة الناس بالقيادة الفلسطينية مثلما كانت تجاه أبو عمار؟ لماذا جلّ نشاطات الأطر الفلسطينية في القدس تتمحور حول إفطار رمضاني وحفلات مدرسية، وليس هناك عمل حقيقي وجذري في أرض الواقع؟
الكاتب المقدسي الشاب مصطفى مصطفى (26 عاماً) لا يرى أن هنالك تأثيراً لاستحقاق أيلول على مدينة القدس، فهو يعتبر أن الاستحقاق مبني بنهاية المطاف على اتفاقية أوسلو، وأوسلو قد استثنت القدس واللاجئين منذ 1993. ويقول: «بالنسبة لأهالي القدس/ الاحتلال هو من يقرر ماذا سيحلّ بالمدينة».

ويروي مصطفى كيف أن الاحتلال، منذ أوسلو ولغاية اليوم، يضغط بشكل يومي على المقدسيين، من كافة النواحي الحياتية، ويمارس ضدهم وعليهم مشروع التهويد المستمر. «المقدسيّون يعيشون منذ سنوات عديدة بلا توقعات من القيادة الفلسطينية، كونها لم تتواصل معهم منذ سنوات لا تعد ولا تحصى». ويعتبر أن القدس تُستخدم فقط كشعار مقدس لا غير، في المحافل والمهرجانات الفلسطينية والعربية.
أما منار إدريس، من مدينة القدس، فترى أن ليس هناك ما يسمى باستحقاق أيلول. «هذا غباء»، تقول، وتعتبره تنازلاً بطريقة ملتوية عن فلسطين: فلسطين أي كامل التراب الفلسطيني وكامل حقوق الشعب داخل الأرض المحتلة وفي الشتات. أما ما يتعلق بالقدس، فبالنسبة لها هي جزء لا يتجزأ من فلسطين، وتضيف: «بعيداً عن كلّ الشعارات التي تُحكى من قبل ما يُسمى بالقيادة الفلسطينية، ستبقى القدس هي العاصمة الأبدية لدولة فلسطينية يعرف الشعب الفلسطيني تماماً ما هي حدودها ولن يتنازل يوماً ما عن أي شبر فيها».
تعتبر إدريس أن ما تسـعى إليه القــيادة ما هو إلا أوسلو جــديد، الاتفاقية الذي زادت تشـتت الشعب الفلسطــيني داخــل أرضـه وخارجها، وقد شوهت فكرة الهوية الوطنــية وعــملت على زرع حـالة إحباط مزمن خاصة لدى أهالي الأراضي المحتــلة عام 1948. وتضيف: «هذا الأمر يتكرر بشكل أكبر الآن. استحقاق أيلول سوف يشوّه الهوية الفلسطينية في كلّ فلسطين والشتات، وسوف يدخلنا في حــالة إحباط أكبر، لأنه سوف ينفي حق الشعب الفلسـطيني في أرضه وعلى رأس القائمة اللاجئون في الشتات»، والذين حسب رأيها لهم الحق الأكبر في فلسطين.
حسام غوشة، مسرحي شاب من مدينة القدس، يعتبر أن موضوع الدولة وتوجه السلطة إلى الأمم المتحدة هو أمر لا يخصه، لا كمقدسيّ ولا كفلسطيني. «القدس عندي غير قدس السلطة، وفلسطيني غير فلسطين منظمة التحرير الحالية»، يقول غوشة. «هيانا عم نواجه الاحتلال وعايشين.. مستورة ياختي». ويختم مختصرا: الاحتلال سيبقى احتلالا حتى يخرج من فلسطين، غير ذلك سأبقى أعتبره محتلاً وواجبي أن أقاومه.

السابق
بري إستقبل ميقاتي
التالي
المراد دعا حزب الله الى مراجعة مواقفه