بطريرك الحركة التصحيحية

السجال الذي اندلع على خلفية التصريحات التي اطلقها البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي من باريس وقبلها من الفاتيكان، يدل على حجم الصدمة التي تلقاها الفريق الذي كان يعتبر أن بكركي وسيدها محسوبان له وليس هو من يتبعهما. فقد دلت التجربة السابقة مع البطريرك السلف نصرالله صفير على أن الرجل كان ينفذ اجندة سياسية داخلية بامتداد خارجي، الأمر الذي فضحته مواقف الراعي الأخيرة.
عبّر سيد بكركي الجديد عن مواقف حقيقية طالما كانت في صلب قناعات الصرح البطريركي على مدى التاريخ، إلا أنها انحرفت بفعل انغماس بعض اسياده في التجاذبات السياسية بتأثير من قيادات حزبية مسيحية عملت لفترة طويلة على تطويع تلك المواقف لغاياتها وبما يتناسب مع رؤيتها لمسارات السياسة في المنطقة ولبنان، كتلك التي اعتمدها رئيس حزب "القوات" سمير جعجع عندما كان لا يزال قائدا لتلك "القوات" قبل أن تصبح حزبا والى فترة وجوده في السجن والى ما بعد تلك الفترة، عندما استخدم بكركي لشق الصف المسيحي في وجه تياري العماد ميشال عون وسليمان فرنجية اللذين سعيا لاعادة بكركي الى ما دأبت عليه من مواقف وطنية أو على الأقل نأيها عن التجاذبات على الساحة المسيحية، وحصر مواقفها بأمور استراتيجية لمصلحة الوطن عموما.

ما يبدو من حركة البطريرك الراعي هو العودة الى ثوابت الطائفة المارونية في عروبتها وانتمائها الى هذا الشرق الذي غيبت عنه لمصلحة التغريب ثقافيا وسياسيا، علما أن الغرب الذي سعى الى ذلك ينتمي الى العلمانية اكثر من انتمائه الى المسيحية، في عملية دجل حقيقية تعيدنا الى حقبة نزول الوحي على عيسى ابن مريم عليه السلام.

المواقف التي أعلنها الراعي في اتجاهات شتى من بينها إعلان نيته مرارا زيارة سورية أو مقاربته لما يجري في العالم العربي من ثورات أو فورات، يبدو أن الإلتباس يقع حقيقة في فهم ثوابت بكركي التي يجري الحديث عنها، علما أن قراءة تاريخ الصرح ومن تعاقب عليه من بطاركة لم يكن يوما خارج سياق ما أعلنه الراعي ولا سيما حيال انتماء مؤسسته وطائفته الى العالم العربي، فهم كانوا على الدوام بطاركة لإنطاكية وسائر المشرق وهو ما يبدو أن الراعي يسعى الى إستعادته من بوابته الواسعة، عبر الإطلالة الحقيقية على الأزمات التي تعيشها المنطقة، وليس من خلال ما يخطط من مشاريع تخدم أهدافا مباشرة للدول الراعية لها.
تقدر مصادر سياسية دينية ان الكم الذي سمعه الراعي منذ لحظة توليه منصبه على راس الكنيسة المارونية وصولاالى زيارته الأخيرة لفرنسا، جعلته يتيقن من أن المسار الذي فرض على الموارنة سلوكهم لا يؤدي بهم الى الإستقرار الى جانب مواطنيهم المسلمين في المنطقة، وأنهم مجرد فئة تتقاذفها مصالح الدول الغربية، في ظل تحالفات الهدف منها إضعاف فئة بعينها في صراع مذهبي أريد له أن يستعاد لإحكام السيطرة على مقدرات اقتصادية هائلة تنعم بها منطقة الشرق الأوسط، وهو ما سيكون له التأثير الكبير على الوجود المسيحي في الشرق، وهذا الامر اثبتته الأحداث منذ غزو العراق وما حصل للمسيحيين هناك وما يتعرضون له في مصر، ناهيك عن استهدافهم في اكثر من دولة عربية.
تشير المصادر نفسها الى أن المشروع الأميركي الذي عرف بمشروع الشرق الأوسط الجديد، والذي عملت عليه إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، لم يلحظ وجودا سياسيا للمسيحيين في المنطقة العربية من الشرق الأوسط ، بل بنى استراتيجيته على أكثريتين إسلاميتين سنية وشيعية، وسعى الى تأجيج الصراع بينهما ليصل الى تعزيز تحالفه مع إحداها بعدما يتضح له لمن ستكون الغلبة في النهاية، علما أن الاميركيين يقيّمون معادلاتهم على تقدير القوة العددية ومساحات الانتشار والمقدرات الاقتصادية التي يمتلكها كل طرف، إلا أن ذلك لم ينجح بعد بروز معادلات جديدة في ميزان القوى فرضتها أحداث اساسية حصلت في السنوات العشر من القرن الماضي.

وتقول المصادر السياسية – الدينية، إن البطريرك الراعي ربما وعى هذا الأمر باكرا، لكنه لم يستطع حياله شيئا لأنه لم يكن في حينه في سدة المسؤولية، علما أن قيادات سياسية مارونية بنت استراتيجياتها على هذا الفهم، وما توافر من معلومات منذ فترة ليست بقصيرة، عندما ابلغت الولايات المتحدة المسيحيين ـ منذ قررت إطلاق مشروعها الجديد للشرق الأوسط وقبل البدء في تنفيذه عبر البوابة العراقية ـ أن لا دور سياسيا لهم في المنطقة، وأنها مستعدة الى تقديم كل الضمانات الاجتماعية والاقتصادية مع توفير الحماية بالحد الأقصى، غير أن ذلك سيكون بداية تلاشي الوجود المسيحي في الشرق بعد فترة من الزمن.

لم يشعر المسيحيون قبل ذلك انهم مستهدفون من قِبل اي من مكونات المنطقة، ما خلا بعض المجموعات المتطرفة التي أفسحت لها الولايات المتحدة مجال التحرك لزرع الفتن وزعزعة الاستقرار من الزوايا المذهبية والطائفية والإتنية بهدف الوصول الى التفتيت الذي يخدم مشروعا "إسرائيليا" منفردا. ما يقوم به الراعي ليس غريبا في الحقيقة عن تاريخ بكركي وقناعاتها، بل هو غريب على كل أولئك الذين استطاعوا السيطرة على عقل بكركي وقرارها في الفترة الماضية بعدما اكتفى سيدها السابق بما عرضته الولايات المتحدة عليه من ضمانات. لتصبح حركة السيد الجديد التصحيحية مسؤولية لبنانية، عربية وإسلامية، عليها أن تقدم للراعي كل الضمانات والحماية والتأييد من اجل إكمالها لأن فيها خلاص الجميع وكتابة جديدة للتاريخ.   

السابق
حزب الله ليس قلقاً من التطورات
التالي
ملتقى الفينيق للشباب العربي يكرّم طلاب بنت جبيل