أيّ لحوم يأكلها اللبنانيّون؟

"هنغار"، "غرف تعذيب"، "صالات للذبح"… تتعدّد التسميات، إلّا أنّ المقصود واحد هو المسالخ في لبنان التي تكاد تشبه أيّ شيء إلّا المسالخ، لافتقارها إلى أدنى معايير الرقابة الغذائية. قضية قديمة جديدة تكاد لا تنتهي فصولها مع تزايد التجاوزات والانتهاكات في حق سلامة المواطن الغذائية.

"أغلب المسالخ… "خرج" إقفال!" بهذه العبارة يختصر وزير الزراعة حسين الحاج حسن وصف الحال المتردية التي بلغتها المسالخ في لبنان، مشيرا إلى صعوبة منع اللحّامين من الذبح في محلاتهم، "نظرا إلى الفوضى العارمة لا يمكننا دفعهم في اتّجاه المسالخ حيث لا رقابة على اللحوم". ويوضح: "تخضع إدارة المسالخ إلى البلديات، في حين أنّ وزارة الزراعة مولجة الإشراف الصحّي البيطري على هذه المسالخ، إلّا أنّها طوال سنوات لم تكن تملك ما يكفي من كادر بشريّ يغطّي الحاجة".

أين القانون؟

في هذا الإطار، يلفت الحاج حسن إلى خطوات تطويرية تسعى الوزارة إلى اتّخاذها لتعزيز المراقبة، ويقول: "منذ عام ونصف نعمل على تطوير الكادر البشري، ومنذ يومين وقّعت قرار إلحاق 5 أطباء بيطريّين، وبعد شهر سأوقع إلحاق آخرين جدُدا من خلال مجلس الخدمة المدنية، ليصبح عددهم 30 طبيبا".

بالتزامن مع توسيعه الكادر البشريّ، كشف الحاج حسن عن انّه في صدد وضع اللمسات الأخيرة على قرار جديد لتنظيم عمل المسالخ، وقال: "نسعى إلى تأمين المستلزمات الكافية لهذا الملفّ، في غضون 20 يوما سيبصر قرار جديد النور، سيحمل في طيّاته المعايير الضرورية للمسالخ والمواصفات التي يمكن الاعتماد عليها، وأبرزها: شروط البناء، التجهيزات، الماء، التهوئة، الإضاءة والإنارة، شروط الذبح، الحفظ، السلخ، التبريد، النقل. ولكن ما لم يتمّ إنشاء مسالخ حديثة، لن أمنع اللحّامين من الذبح في محلاتهم".

وعن طريقة التصدّي للمسالخ المخالفة، يقول الحاج حسن: "سنطلب من البلديات ووزارة الداخلية التعاون بغية إقفال أيّ مسلخ لن يلتزم المعايير التي سنعلن عنها"، ويضيف: "يكفي لبنان 5 مسالخ حديثة كبيرة و5 أخرى متوسّطة الحجم، على نحو يمكن مراقبة اللحوم والتأكّد من سلامتها".

مجرّد هنغارات…

من جهته، يستغرب رئيس جمعية حماية المستهلك زهير برّو أيّ كلام عن وجود مسالخ في لبنان: "هناك مجرّد هنغارات قائمة وغرف سوداء للذبح، لا تستوفي أبسط معايير السلامة الغذائية، الواقع معدوم والدولة في سبات عميق".

ويأسف برّو ليس فقط لغياب الرقابة الرسمية، إنّما لافتقار أبسط معايير النظافة والسلامة العامّة، ويقول: "95 في المئة من المسالخ تعمل على نحو مخالف، والخلل في الملاحم يتجاوز 85 في المئة. ويضيف متسائلا: "من أين نبدأ؟ من غياب وسائل التبريد؟ من حمل اللحوم على الأكتاف؟ أو من توزيعها في صناديق السيارات؟" ويقول: "يمكن القول إنّ المسلخ الوحيد المتطوّر هو في صيدا، في حين أنّ مختلف المسالخ تغنّي على ليلاها. على سبيل المثال مسلخ بيروت الذي من المفترض أن يؤمّن ذبائح نصف لحوم لبنان، يفتقر إلى الشروط الصحّية، وتغيب عنه وسائل التبريد ومعالجة النفايات لتحلّ محلها مختلف الوسائل البدائية". ويضيف متأسّفا: "أمّا عن سبل التوزيع فحدّث ولا حرج، لأنّها غالبا ما تتمّ عن طريق صناديق السيارات من دون اتّخاذ أيّ تدابير احترازية، ممّا يضاعف تكاثر الجراثيم والميكروبات في اللحوم".

و"تتشعّب المشكلات وتتنوّع في الحديث عن المسالخ"، على حدّ تعبير برّو، لا سيّما وأنّ "كثيرا من المزارع قد تتحوّل مسالخ وأخرى تبصر النور من دون أن يدري أحد بها". ونظرا إلى الفوضى التي يشهدها قطاع بيع اللحوم في لبنان، يستبعد برّو توافر أيّ طبيب بيطريّ في المسالخ، ويقول: "أستبعد إشرافهم في المسالخ على مختلف الذبائح في ظلّ غياب أيّ محاسبة، إلى حدّ باتت اللحوم تُختم على نحو عشوائي، والعدد الأكبر منها قد لا يُختم، لذا فإنّ وجود هذا الختم لا يعني بالضرورة أنّ طبيبا بيطريّا كشف عليها".

للملاحم حصّة في التجاوزات

في السياق نفسه، يحذّر برّو من عدوى الفوضى المنتقلة إلى الملاحم، ويقول: "بعضها يتعمّد تذويب اللحوم المجلّدة على أساس أنّها طازجة، في حين يتمّ مزجها بلحوم أخرى، على نحو يغشّون المستهلك، فيبيعونها بأسعار أغلى". ويضيف: "الدولة شبه غائبة عن هذا القطاع، الإعلام يتحرّك من وقت إلى آخر، إلّا أنّ هذا غير كاف، فصحّة المستهلك على كفّ عفريت، والمسالخ في حاجة إلى ورشة عمل وقرار حكومي لتنظيمها في أسرع وقت ممكن".

التواطؤ في المسالخ

بدوره يعتبر رئيس نقابة الأطبّاء البيطريين رضا الميس أنّ "الطاسة ضايعة" على مستوى المسالخ، معتبرا أنّ "المسألة شائكة ومعقدة في ظلّ غياب أيّ معالجة جدّية ورسمية للأمر". لذا ينتقد التجاوزات التي تشهدها عملية بيع اللحوم، قائلا: "عموما من ضمن عمل البلديات هناك رسوم "ذبحيّة" من المفروض دفعها للطبيب البيطري ليكشف على اللحوم، إلّا أنّ هذه الضريبة غالبا ما تحتفظ بها البلديات من باب التوفير". ويضيف متسائلا: "كيف لنا أن نلوم المسالخ النائية في حين أنّ نظيراتها في بيروت والضواحي فاتحة على حسابها" من دون حسيب ولا رقيب ولا تلتزم الشروط الصحّية وغير مرخّص لها بالعمل؟".

من جهته يحذّر الطبيب البيطري فضل الله منيّر من احتيال قد يجري في المسالخ وتواطؤ بين التجّار، ويقول: "بعض الأبقار والأغنام تكون مريضة وموشكة على الموت، أو حتى نافقة، وعلى رغم ذلك تُساق إلى الذبح، ما يضاعف مخاطر تناولها على المستهلكين". لذا يشدّد على ضرورة التعاقد مع أطباء بيطريّين والتأكّد من إشرافهم على اللحوم في مختلف مراحلها، بدءاً من دخول الحيوانات إلى المسلخ حتى توزيعها على الملاحم وبيعها للمستهلكين. ماذا عن مسلخ بيروت؟

وفيما يعوّل البعض على الدور الذي يفترض بمسلخ بيروت أن يؤدّيه في تلبية حاجات المواطنين، يؤكّد رئيس اللجنة الصحّية في المجلس البلدي لبيروت سامر سوبرة "أنّ المسلخ "تعبان بالمرّة"، وهو عبارة عن "هنغار" مهترىء تتدهور حاله سوءاً من عام إلى آخر". ويضيف: "منذ العام 1994 تمّ إنشاء المسلخ الحالي في مكانه مؤقتا، ولكن حتى يومنا هذا وعلى الرغم من مرور سنوات طويلة، لا تزال صفة المؤقت تلازم مسلخ بيروت، لذا لا يستوفي معايير المسالخ الطبيعيّة".

وردّا على سؤال عمّا يعوق تحديث مسلخ بيروت، يجيب سوبرة: "على الرغم من اطّلاعي على هذا الملف، لا أملك جوابا، ولكن من الواضح وجود تجاذبات سياسيّة وتدخّلات تعوق تطويره". ويضيف: "في كلّ الحالات إنّ تحديث المسالخ يجب أن يترافق مع تنظيم عمل الملاحم ومراقبتها، وعموما يُمنع بيع اللحوم ما لم يتمّ ذبحها في المسلخ وما لم تحمل ختم بلدية بيروت، ولكن في الواقع نلحظ تراجعا في نسبة الذبحيّات التي يشهدها المسلخ، في ظلّ غياب قانون يضبط عمل الملاحم".

وعلى الرغم من "الكباش السياسي" الذي يحول دون تطوير مسلخ بيروت، يؤكّد سوبرة "إصرار بلديّة بيروت على توفير أفضل معايير سليمة للأهالي "وسنقوم بكلّ ما في وسعنا لأنّ قضية اللحوم ليست موضوع الساعة، ولا مصلحة لأحد في عرقلة المشروع".

حذارِ "اللحم النَيّ"…

من جهته، يحذّر الاختصاصي في الأمراض الجرثومية والمُعدية الدكتور ناجي عون من المخاطر الصحّية المحدقة بالمستهلكين نتيجة تناولهم لحوما لا تستوفي معايير السلامة الغذائية، فيقول: "بات تناول اللحوم في لبنان محفوفا بالمخاطر نظرا إلى سوء تنظيم هذا القطاع. وما يزيد الحال خطورة هو حبّ اللبنانيين تناول اللحوم النيئة، ما يضاعف مخاطر تعرّضهم للأمراض والجراثيم". لذا ينصح بتعريض اللحمة للنار، ويقول: "كثير من الجراثيم والبكتيريا تموت بعض طهو اللحمة، ممّا يخفّف من مخاطر تناولها".

وفي هذا السياق، يلفت عون إلى بعض الحالات المرضية المتكرّرة، ويقول: "غالبا ما يصاب المستهلك بعوارض التسمّم الغذائي نتيجة الجراثيم المتناقلة، خصوصا وأنّ المراحل التي تمرّ بها اللحوم ليست في أمان بدءا من الامتناع عن فحص سلامة الحيوان قبل الذبح، مرورا بوسائل الذبح، وصولا إلى عمليات التوزيع والحفظ التي يغيب عنها التبريد". ويعتبر أنّه "لا يكفي مراقبة المسالخ وعمليات الذبح، بل أيضا العمّال"، ويضيف: "لا بدّ من الـتأكّد من بطاقاتهم الصحّية ومن طريقة تعاملهم مع الذبائح ومدى مراعاتهم لمعايير النظافة والسلامة العامّة".

وفي ضوء هذه الحال المتردّية التي يعاني منها قطاع المسالخ واللحوم، من الواضح أنّه لا يكفي انتظار إصدار قانون ينظم عمل المسالخ، ولا بدّ للحكومة من أن تلحظ في الموازنة العامة للدولة إنشاء مسالخ حديثة نظرا إلى أنّ مسؤوليتها مشتركة بين الوزارات. ويبقى السؤال: إلى متى سيبقى اللبنانيّ أسير السياسيّين إذا اختلفوا… وحتى إذا اتّفقوا؟ 

السابق
ألان: البرلمان سيصدق الكهرباء
التالي
الكاتب عباس جعفر الحسيني يوقع كتابه عن النميريّة