رحيل المؤرخ كمال الصليبي..

من سيطرح أفكارأ مثيرة للجدل؟ ومن سيكتب نظريات تاريخية أثارت نقاشات معمقة حول التاريخ والفكر؟ برحيل المؤرخ كمال الصليبي 1929 – 2011، سيفتقد أهل الفكر والتاريخ والصحافة مؤرخاً كبيراً ومفكراً وباحثاً لبنانياً لكنه عربياً نهضوياً وتنويرياً من الطراز النادر.

في حياته، كان عمله الأساسي دراسة النصوص التاريخية بالإضافة الى عمله الأكاديمي في الجامعة الأميركية في بيروت. يقول في احدى مقابلاته انه لا يكتب من أجل السياسة، فليس من الضروري أن يستفيد أو يتضرر أحد من النتائج التي يتوصل اليها. المعلومات معلومات. فإذا وجدت إشارات، يتبعها الإنسان فتتراءى له الأمور من خلالها بطريقة غير الطريقة التقليدية. وبعدما يقول الباحث ما عنده، يترك للناس حرية القرار في ما إذا أعجبهم ما توصل إليه أو لم يعجبهم.
عمل في الشأن السياسي من ناحية المبادئ. هو البعيد عن أهوائها ووسائلها المباشرة. في بداية حياته الأكاديمية درس النصوص التاريخية المارونية المتعلقة بتاريخ لبنان في الفترة التي تسمى "العصور الوسطى". فكل ما يتعلق بدراسة التاريخ "ينطلق من منطلق نظري ولا يمكن إثباته في شكل قاطع. وليس هناك حقيقة تاريخية يقينية، إلا إذا دخل عامل علمي حاسم كالفلك أو علم الجيولوجيا أو غيرهما".
كتب المؤرخ الدكتور كمال الصليبي في تاريخ لبنان وسوريا والاردن وتاريخ شبه الجزيرة العربية، وكانت مساهماته مميزة ومثيرة للجدل في آن واحد. فهو اشعل العام 1985، حين صدر كتابه "التوراة جاءت من جزيرة العرب"، نقاشاً استمر حتى الأمس، وشغفا بالحقيقة التاريخية. ثم كتب "خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل" 1988 و"حروب داود" 1991 و"عودة الى التوراة" 2009 و "حكايات بني إسرائيل" 2010. وهو في سياق نظرته النقدية أعاد النظر في المفهوم التقليدي لتاريخ بني إسرائيل، وبرهن عن انهم لم يقطنوا فلسطين على الاطلاق، بل أقاموا في السراة وتهامة من بلاد عسير. واستعاد في كتاب صدر له اخيرا في بيروت صورة الموارنة التاريخية… وكتاب آخر عن بلاد الشام في ظل العصور الاسلامية.
وقدم كمال الصليبي كمؤرخ كبير مساهمة له في كتاب جماعي، صدر في اشراف حليم بركات في العام 1988، عرضاً لاصول الطوائف اللبنانية والعربية اظهر فيه ان الولاء القبلي او الانتماء الى قبيلة او قبائل متحالفة حدد انتماء هذه القبائل الطائفي. هذه القبائل اختارت ان تنضوي ضمن اطار طائفة بعينها حفاظاً منها على الرابط القبلي الذي كان يجمعها، ولتأمين ديمومة هذا الرابط. وبحسب الصليبي يمكن استطراداً القول ان "الصفاء" العرقي قد يكون خاصية اوضح لدى الاقليات الطائفية في المشرق العربي اكثر منه لدى الغالبية السنية، أي ان مجيء العرب المسيحيين الذين اصبحوا موارنة الى سوريا سبق الفتح العربي بفترة بالكاد تتجاوز نصف قرن.

يذكر اصدقاؤه انه في غيابه عن لبنان لسنوات بين 1997 و2004 كان كفاقد الهوية، على الرغم من انه تنويري ومشرقي وعربي. كانت بيروت رئته التي يتنفس منها ويكتب بالحرية التي تفتح على النقد ما يثير الجدل والنقاش اللذين يحتاج اليهما عالمنا العربي. وبرحيله تطوى صفحة مضيئة في حياتنا العلمية والفكرية والتأريخية.
توفي صباح أمس ونعته الجامعة الاميركية في بيروت ودائرة التاريخ وعلم الآثار فيها. وكان استاذ الشرف في الدائرة.

السابق
صلاة العيد في صيدا تكرس الانقسام
التالي
ضرب زوجنه بسبب… مسلسل