إيران والثورات المهدوية أم ولاية الفقيه أم الإصلاح؟

ينظر محلّلون استراتيجيون في اهتمام بالغ إلى مستقبل الوضع في إيران. هذه "الإمبراطورية" التي كان نجمها الأكثر سطوعا في الشرق الأوسط على مدى السنوات الأخيرة، تهتزّ اليوم بتأثير من الزلزال الذي يضرب المنطقة، ويهدّد بإضعاف المحور الحليف لطهران في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين.

لكنّ إيران لا تواجه التحديات التي تفرضها المعطيات الخارجية فحسب، بل إنها تتعايش مع سلسلة أزمات داخلية تكاد تطيح الثورة وإنجازاتها ورموزها. وهي تتجلّى بالصراع الذي دار بين الرئيس محمود أحمدي نجاد والإصلاحيين قبل عامين، ثم الصراع الدائر اليوم بينه وبين المحافظين.

في العام 2009، تصدّى نجاد للإصلاحيين في قوّة، غداة إعادة انتخابه. وعطّل قدراتهم ووسائل انتفاضتهم، وفرض الإقامة الجبرية على الوجهين البارزين في الحركة الإصلاحية، مير حسين موسوي ومهدي كروبي. وجعل الرئيس السابق علي خاتمي تحت سقف سياسي محدّد.

أزمة داخل الثورة

صراع نجاد مع الإصلاحيين لم يكن خارج السياق المتوقع. ومن الطبيعي أن يواجه النظام القائم على أسس شديدة التحفّظ اتجاهات تحرّرية. لكن ما لم يكن متوقعا هو انفجار الأزمة داخل المعسكر المحافظ، أي معسكر الرئيس نجاد نفسه. وثمة توقعات لدى الإصلاحيين بأن تتيح هذه الأزمة مجالا لهم بالعودة إلى الساحة تدريجا، ولو في بطء وخجل.

وكان لافتا موقف المرشد الأعلى للثورة الإمام علي خامنئي في حزيران الفائت، عندما دعا إلى عدم حرمان فئة كبيرة من الشعب، حقها في التعبير، "إذا لم تحاول قلب النظام أو تقوم بعمل خيانة".

ولهذا الموقف أهمية في ظل التحضيرات الجارية لانتخابات ربيع 2012 التشريعية. فهناك من يعتقد أن المجال سيكون فيها مفتوحا لمشاركة الفئة "المعتدلة" من الإصلاحيين، وربما على رأسهم الرئيس خاتمي. فهو حرص دائما على تأكيد الولاء للنظام الإسلامي، لكنّه بقي يطالب بالإفراج عن السجناء الإصلاحيين وإطلاق يد الناشطين السياسيين في التحرك.

ماذا جرى في المعسكر؟

هذا التمايز داخل المعسكر المحافظ بين الرئيس ومرشد الثورة له أسبابه ومقدماته. وهو يعبّر عن احتقان متفاقم انفجر فجأة.

في نيسان 2011، تحدّى نجاد قرار خامنئي القاضي بإقالة وزير الاستخبارات حيدر مصلحي. ولهذا الموقع أهمية خاصة في حسم قبول بعض المرشحين للانتخابات التشريعية أو رفضهم. وتَرجم الرئيس الإيراني اعتراضه باعتكاف لعشرة أيام. كما تحدّى نجاد رغبة المحافظين عندما تولّى لثلاثة أسابيع وزارة النفط، في أيار.

حاذر خامنئي افتعال أزمة داخل مؤسسات النظام، وأعلن دعمه استمرار نجاد في الحكم حتى انتهاء ولايته. لكن المحسوبين على مرشد الثورة هاجموا الفريق القريب من نجاد في عنف، ولا سيما مدير مكتبه أسفنديار رحيم مشائي، الذي اتهموه برعاية خط يهدف إلى زعزعة النظام الإسلامي وإدخال التعددية إليه.

ووجّه أحد أبرز المحافظين آية الله محمد تقي مصباح يزدي إلى مشائي تهمة التحضير لانبثاق بدعة دينية جديدة تشبه الدعوة البابية التي ضربت إيران في القرن التاسع عشر. وقد دفع هذا الاتهام مشائي، في حديث إلى وكالة "إرنا"، إلى تأكيد ولائه وولاء الرئيس نجاد لولاية الفقيه. كما حرص نجاد على إعلان الولاء الصريح لخامنئي في مناسبات مختلفة منعا لتفاقم الأزمة.

الإمام الغائب… حاضِر

لكن هناك عوامل عدة تهزّ العلاقة بين الرجلين وتترك انعكاساتها على مستقبل النظام وإيران عموما. وهذه العوامل يتداخل فيها السياسي بالديني- العقائدي. ويتحدّث المطلعون عن اختلاف مبدئي في النظرة العقائدية بين الرجلين القويين في النظام. وهو يتمثّل خصوصا بالتباين بين تيارين: المهدوية وولاية الفقيه.

معلوم أنّ آية الله الخميني كان له دور حاسم في إقرار مفهوم "ولاية الفقيه"، بعدما بقي أجيالا موضع نقاش فقهي يتعلق بإدارة فترة انتظار الإمام المهدي. وسمح انتصار الثورة في العام 1979 بأن تصبح "ولاية الفقيه" ركيزة للدستور. وجاء فيه: "في زمن غيبة حضرة ولي العصر (عجّل الله فرَجه)، تكون ولاية الأمر وإمامة الأمّة في الجمهورية الإسلامية في عهدة فقيه عادل وتقيّ، مطّلع بزمانه، شجاع، مدير ومدبّر".

هذا المفهوم أتاح نموّ تيار سياسي وعقائدي يقول بالنضال لتحقيق أهداف الثورة الإسلامية، لتكون جاهزة لأداء واجب الاتصال بالإمام المهدي. وضمن هذه النظرة، يؤكد الرئيس نجاد منذ وصوله إلى الحكم أنه يعمل بهَدْي من الإمام المهدي. ويعتبر أنّ فوزه على الإصلاحيين في 2009 كان نصرا ربانيا، وكذلك انتصاره في الملف النووي. وأشار مرارا إلى أنّ كل القرارات التي تُدار بها الجمهورية موحى بها من خلال التواصل مع الإمام المهدي. ويرى باحثون أنّ نجاد يتجاوز في ذلك الاعتبارات التي أرست "ولاية الفقيه"، أي أن نجاد يقيم الرابط بينه وبين الإمام الغائب من دون المرور بالوليّ الفقيه، الذي هو نائب الإمام.

الخلاف خارج الحدود

هذه النظرة ينتقدها الإصلاحيون والمحافظون على السواء. ويَحْملون على ما يعتبرونه مبالغة نجاد في القول بإدارة الإمام المهدي لشؤون الجمهورية الإسلامية. فالإمعان في ذلك يحمّل الإمام الغائب تبعات قرارات سياسية واقتصادية واجتماعية لا يمكن القبول بها أحيانا. وهناك من يقول في أوساط بعض الخصوم إنّ منطق نجاد يمكن أن يغطّي بعض الأخطاء أحيانا، وأن يقدّم خدمة انتخابية له.

وعبّر آية الله خامنئي عن رفضه هذا المنطق في إحدى خطبه، فقال: "إن ادّعاء بعضهم أشياء غير واقعية، وبطرق خرافية، مثل رؤية الإمام المهدي، والشرف بلقائه، والصلاة وراءه، هي، في رأيي، ادّعاءات باطلة". ويزداد الشرخ بين الرئيس والمرشد، ولو تراجع أحيانا تحت وطأة التصدّي المشترك للتيار الإصلاحي.

وينعكس التباين في طهران على الشيعة في العالم، ونسبتهم نحو 15 في المئة من المسلمين. وفي لبنان يميل قادة الطائفة إجمالا إلى "ولاية الفقيه". فيما العلّامة السيّد محمد حسين فضل الله كان أعلن انفكاكه عنها بعد غياب الإمام الخميني، معتبرا أنّها كانت تصلح لقيادة استثنائية ومميزة. وبعد وفاة الخميني، لم يعد هناك إجماع لدى الشيعة على أن يكون خلفه الولي الفقيه. ولكلّ مجتمع شيعي خصوصياته.

الثورات العربية أثارت الإرباك

ما هي الانعكاسات المحتملة للخلاف السياسي- العقائدي داخل المعسكر المحافظ في داخل إيران وخارجها؟

الخبراء في الشأن الإيراني يتوقعون تصعيدا بين الطرفين مع اقتراب استحقاق 2012. ويمكن أن تظهر التجليات في شكل تبديلات وإقالات لمسؤولين على غرار ما حصل حتى اليوم. ومن ذلك الخروج المفاجئ لعلي أكبر ولايتي من الخارجية.

لكنّ الإرباك الحقيقي سيكون في النظرة إلى الثورات العربية. فالرئيس نجاد والقريبون منه بادروا سريعا إلى اعتبار الثورة في تونس ومصر جزءا من علامات الأزمنة التي تبشّر باقتراب خروج الإمام الغائب. وقال معلّقا في شباط: "إنّ المجتمعات تعرف في الشهرين الأخيرين تيّارا عظيما يتحرّك في اتجاه الخط الإلهي والإنساني الأصيل، وثورتنا تمثّل مقدّمة للحدث الذي وعَدَ به الأنبياء". غير أنّ الإحراج ضرب خطاب الثورة عندما بدأت تجتاح سوريا، الموقع المتقدم لإيران ضمن الهلال الممتدّ عبر العراق إلى لبنان، على غير ما كان متوقّعا ومأمولا.

هذه التحديات الإيرانية تفتح المجال لتحليلات حول مستقبل إيران والثورة فيها ورموزها. فالثقافة التي لطالما رعت خطاب الثورة الإسلامية منذ العام 1979 كانت تجعلها "الثورة" بالمعنى الحصري، وهي ختام الثورات جميعا لأنها تمّت بوحي إلهي. فكيف سيتمّ التعاطي مع المتحولات التي تفرضها ثورات أخرى، في غالب الدول والمجتمعات التي تحيط بإيران من مختلف الجهات، وتتداخل معها سياسيا واجتماعيا ودينيا في شكل عميق؟

السابق
اللواء: رئاسة لبنان لمجلس الأمن عنصر دعم لإعتراف الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية
التالي
اعتصام رمزي عند تقاطع الحاصباني