سوريا: إنتفاضة حقوق لا مكونات طائفية

قد نختلف في تحديد سبب رئيسي للثورة السورية، لكن ما لا نختلف فيه، هو أنّ كلّ عوامل نهوض المجتمع، مقيّدة لجهة التطوّر، ومفتوحة لجهة الفساد والنهب واحتجاز الحريات. ما يحصل في سوريا، هو ثورة الحقوق العامة التي انتزعت بتتالي الزمن، وشكّل الزمن العربي الثوري الجديد، دافعاً لاستردادها، وشعوراً متعاظماً بإمكانية ذلك، وتصالحاً مع النفس، بأنّ التغيير ممكن.
ينطلق أكثر من يشارك في الثورة، من المناطق الأكثر تهميشاً، عدا المناطق التي خرجت كلياً عن سيطرة السلطة أي درعا، دمشق وحمص وحماه وجسر الشغور واللاذقية وبانياس. ميزة تلك المناطق، هي في عدم اختراقها أمنيّاً، وكثافتها السكانية، وصلاتها العائلية والدينية،

وشعورٌ عارمٌ بالقهر وانعدام فرص العمل، عدا مساواة الحياة بالموت لديهم، فهم لا يملكون عملاً أو حلماً سيحققونه، ويرون حياتهم في المستقبل، ويخافون إن تراجعوا من أن تتقدم القوى الأمنية لسحقهم. يضاف إلى ذلك، اعتماد السلطة الحل الأمني حلّاً وحيداً، حتى في لحظة حوارها مع بعض الوجهاء، مما يُشعرهم بأنّ الحوار بقصد كسب الوقت، وليس لحل المشكلات. وبالتالي، ورغم دخول الآلاف السجون وكلفتها العالية، فإنّ المتظاهرين سرعان ما ينخرطون مجدّداً في الثورة. دلالة كلّ ذلك، أنّ هدفهم المركزي هو إسقاط النظام وليس إصلاحه، ما دام النظام لم يع أنّ الشعب يقوم بثورة حقيقية، تعم أرجاء الدولة، ولن يتراجع قبل تحقيق أهدافه.
رب سائل يسأل: لماذا يتجاسر شعب أعزل على التظاهر رغم موت وسجن الكثيرين؟ أقول: يتجاسر وتمتد التظاهرات كلّ يوم جمعة، وطيلة أيام الأسبوع، إلى مدن وبلدات وقرى جديدة، لأنّ لديه، وربما لأوّل مرة، الشعور بأنّه قادر على إنهاء الاستبداد والاستغلال والظلم، وإنهاء السيطرة الأمنية عليه، بل وحتى إنهاء عقلية السيد والعبد وإلى الأبد. عقلية يحس بها «المواطن» أنى ولّى وجهه في مؤسسات «الدولة».
يرغب بعض المحللين في ربط الثورة الشعبية في سوريا، بطائفة دينيّة محدّدة، وهي السنّة، وبأنّ من لا يتظاهر هو من أبناء الأقليات. طبعاً هذا الرأي ليس صحيحاً ـــــ فهناك كتلة بشرية هائلة من الطائفة ذاتها في المدن الرئيسية، لم تتحرك رغم مضيّ ثلاثة أشهر، عدا ضرورة التمييز بين صحة القول إنّ وعي المتظاهرين ديني، وخطأ القول بأنّ تظاهراتهم لغايات طائفية. فالصحيح أنّه، وبعد عقودٍ من التهميش، وتسييد الوعي الديني، أصبح الوعي الديني هو الأساس في مختلف طبقات الشعب. وكون بعض الهتافات والشعارات ذات صبغة دينية، لا يعني أنّ دلالتها طائفية، بل لا يتعدى الأمر كونَ الوعي الأوليّ وعياً دينياً، دون أن نغمض العين عن تيار علماني يشارك بالتظاهر بصفته تلك. مشاركة الأخير تحصل في انسجام تام مع بقية المتظاهرين.
وعلى كلّ حال، إنّ الثورات التي انتصرت في مصر وتونس، انتصرت بما هي ثورات شعبية، والشعب اليمني والليبي والسوري يتحرك لأسبابٍ متعددة، سياسية واقتصادية وغير ذلك، وليس لأسباب دينية أو قبلية أو طائفية. وإذ كنت لا أستبعدها، فإنّها لا تعدو كونها مجرد نتوءات هامشية، وأشدّد على عدم الخلط أبداً، بين الحس الديني الأولي وبين الوعي الطائفي السياسي.
إذن، الحركة الثورية العربية هي حركة شعبية بامتياز، وما يحصل في سوريا هو في التوجه ذاته، وتُعتمد شعارات تنحو الوجهة الوطنية أو الديموقراطية، وهو ما يحدث على امتداد البلد، وليس في مناطق بعينها. لا ننسى هنا، المغزى من تسمية إحدى الجمع يوم الجمعة العظيمة وآخر يوم أزادي. من البداهة القول: إنّ من يتخيّل ثورة عربية أو سورية، خالية من بعض الطائفية أو القبلية، هو شخصٌ منعزلٌ عن واقعه، ولا يفقه شيئاً من علم الثورة.
السوريون وكذلك العرب، لم يعودوا يَثقون سوى بدولةٍ مدنية تستند إلى الشعب وليس إلى الدين، أمّا المحاولات التي تحصل، في مصر وتونس، ومحاولات بعض القوى والشخصيات الطائفية السورية الدخول على خط الثورة، وحرفها نحو توجه طائفي ما، فستفشل سريعاً، وستضطر بنحو أو بآخر، إلى الانصياع لأهداف الثورات. اهداف تتمثل في نيل الحريات العامة والخاصة، وفي العدالة الاجتماعية وتأمين فرص العمل، واستكمال السيادة الوطنية واستعادة الشعور بالكرامة والمعنى، والترقي والتخلص من حكم أجهزة الأمن، أو أيّة قوى تسلطية قد ترغب في تجريب استبدادها بحجة احتكار الحقيقة المطلقة.
تَدفن الثورات الشعبية الاستبداد السياسي، على امتداد الوطن العربي، وستدفن، أي شكلٍ جديدٍ للاستبداد. فالهدف واضح، وهو تشكيل دولة مدنية حديثة، تستند إلى الشعب لا إلى الشريعة، ومؤسسات دستورية، وفصل للسلطات، وتغيير ديموقراطي سلمي مستمر.
يهوى البعض النفخ في البوق الطائفي، واستعادة ذكرى الثمانينيات والحرب الأهلية، وهناك من يستمرئ هذا التخيّل ويهلوس ويعتقد به. كانت تلك الذكرى في سيرورة مختلفة كليّة، ونتاج حركة طائفية محدّدة، وجناح عسكري محدّد بها، وحلّ آثارها يجب أن يكون قانونياً. أمّا الآن، فإنّ شعباً بأكمله يثور، ولا تستطيع أيّة جهة طائفية مصادرة ثورته، لذلك لن تنجح العقلية الطائفية من أيّة جهةٍ أتت: من أوساط السلطة أو المعارضة الطائفية.
حتمية فكرتي ليست من فكر عقائدي ما، بل من تراكم الأزمات في المجتمع العربي، وغياب أيّة إمكانية لحلّها في إطار الأنظمة التابعة، وفي أنّ الشعب العربي وجد طريق الخلاص منها، فلا إصلاحات ولا تحديثات ولا لجان مصالحة ولا تغيير حكومات ولا احتلال خارجي ولا قوى طائفية، بل ثورات حقوق متلاحقة، ستبقى ثائرة وتُسقط الأنظمة بالتتالي، إلى أن تأتي أنظمة تستجيب لمصالح الشعب، وتحقق له أهدافه.
سوريا في هذا، ليست استثناءً، وربما تكون القاعدة المركزية، لكلّ ما حصل وسيحصل على امتداد العالم العربي.

السابق
فضل الله: المحكمة الدولية صارت وراء ظهرنا
التالي
هوس السلطة