في ذكرى فضل الله الأولى: بحثًا عن “تيار الوعي”

تأتيك الرسالة كل يوم جمعة. عبارة منتقاة من كلام العلّامة الراحل السيّد محمد حسين فضل الله. عادة دأبت إدارة مجمع الحسنين في حارة حريك، حيث منبر الراحل وملتقاه مع محبيه، على اتباعها منذ رحيله في مثل هذا اليوم قبل عام واحد. كيف كان غياب السيد و«حضوره» خلال سنة كاملة؟
السؤال عن غياب السيد محمد حسين فضل الله، بعد عام واحد على رحيله، له وقع خاص في «عائلته الكبيرة». محبّو السيد جزء منه ومن حياته الخاصة، إذا كان من حياة خاصة. فابنه جعفر، المعمم الثاني في العائلة، بعد النجل الأكبر علي، وترتيبه التاسع بين أولاد الراحل، يرى أنّ «ما نشعر به، كأبناء وعائلة، يشعر به كثيرون، أحبوا السيد، وأكثر: تربوا في مدرسته». من منبره، المتنقل من النبعة إلى بئر العبد إلى حارة حريك، قاد السيد حركة إصلاحية، أقل ما يقال إنها إشكالية، «فالعلّامة طرق الأبواب المغلقة منذ عصور وثار على النمطية التي حكمت شخصية عالم الدين، فكان المسجد أكثر من مكان للعبادة»، يقول كمال دياب، من مؤيدي السيد منذ عشرات السنين.
والكلام على «تركة» السيد، كما يقول نجله جعفر، هو حديث عن «تركتين»: الأولى تركة خاصة، تتمثل في المشاريع التي أنشأها السيد، وواكب عملها طيلة حياته. لكن هل حقاً هذه تركة خاصة؟ يستدرك فضل الله: «لا أقصد بالخاص الملكية الشخصية، فوالدي لم يترك إلا القليل من هذا، منزله وبعض الممتلكات، وهو لم يخرج من الدنيا بأي ثقل». ويوضح أنّ هذه التركة الخاصة التي يتحدث عنها هي أيضاً «ملك عام، حتى المنزل الذي يملكه كان ولا يزال مكاناً عاماً». ويروي أن الراحل كان يرفض مصطلح الإرث، إن لم يرتبط بالدين «فكان يشدد علينا بأن قولوا: إرث الإسلام، فالقائد الحقيقي لا يربي على الارتباط به، بل بالأهداف التي يعمل من أجلها».
لكن ما موقع العائلة من المؤسسة وتيار فضل الله، وهل تتحمّل عبء هذا الإرث، كما نشهد عادة في سيرة علماء الدين؟ يرفض فضل الله هذا الكلام، ليذهب إلى أن «حفظ الإرث هو مسؤولية أي شخص ينتمي لتيار السيد»، لكن «الرمزيات لا يزال لها دور في بنيتنا الاجتماعية، وهذا ما لا نستطيع التحرر منه نهائياً». ويدافع عن فكرة «أنّ المسالة ليست مجرد بنوّة وقرابة»، مؤكداً أنّ «بعض أبناء السيد ليسوا منخرطين في مؤسساته، وآخرين موظفون مثل الباقين». من هنا يلاحظ المراقب أن المحيطين بالسيد فضل الله في حياته، والمسؤولين عن الحركة اللوجستية، لا يزالون مستمرين في أعمالهم، الاعلامية والثقافية والفكرية والاجتماعية. كذلك فإن النجل الأكبر للراحل، السيد علي، تصدى، شأنه في حياة السيد، للمهام الاجتماعية والدينية، كصلاة الجماعة واستقبال الزوار من سياسيين وإعلاميين ومثقفين ووفود شعبية، أجانب وعرباً ولبنانيين، وإن كان الملاحظ أنّ وتيرة هذه الزيارات خفت بنحو كبير بعد غياب السيد.
يعترف السيد جعفر بهذه الحقيقة «فالكبار عندما يرحلون، أشياء كثيرة تتغير. وغيابه ترك فراغاً كبيراً». ويرى أنّ هناك «جنوداً كثراً، مجهولين ومعروفين، يكملون هذه التجربة، كل من موقعه، والتجارب تتكامل».
وترى مروى ياسين، وهي من مقلدات السيد «أنّ الجيل الذي تتلمذ على يديه، أصبح أكثر إصراراً على استكمال المسيرة، عبر الحرص على الاطلاع أكثر على مواقفه وكتاباته التي أطلقها سابقاً». ويتوقف حسين منصور عند «الموجة العاطفية التي لا تزال تتحكم بمحبي السيد، منذ رحيله حتى اليوم، فالندوات الفكرية والقضايا التي أثارها في حياته، تتخذ طابعاً احتفالياً أكثر منه فرصة للنقد والنقاش، والأخذ والرد العلميين». ويعزو السيد جعفر الأمر إلى الغياب المفاجئ للسيد، إذ «كنا نظن أنه سينتصر على المرض، فيما كانت ارادة الله غير ذلك. وبغيابه شعر العاملون معه ومحبوه، بأنّهم أصبحوا أكثر حرية في التعبير عن محبتهم تجاهه». ويستدرك أنّ هذا الموقف صادق وعفوي، «ويعبّر على الأغلب عن الحسرة المتأتية من الحملة الظالمة التي تعرض لها في حياته، ربطاً بمواقفه ومنهجه الفقهي والفكري». لكن عملياً، بحسب فضل الله، «ما يُتّكل عليه هو النقد والنقاش العلمي الهادف». وهو يستشهد بنقاش جرى على صفحات «الفايسبوك» بين محبين للسيد، حين «أطلقت فئة صفحة سمّتها «فضللهيون»، ورفضت فئة أخرى التسمية، مستندة إلى رفض السيد للنسبة، أي نسبة الحركة والفكر إلى شخص، حتى انه كان يعارض القول «محمديون». من هنا نجد أن مدرسة السيّد تتحمل كل الآراء وهي ليست مغلقة على فكرة أو مقولة». لمروى ياسين رأي في تأثر الحالة العاطفية، فترى أن «هناك بعض الشواذ من محبي السيد لا تتصل بنهجه الذي ربانا عليه، إذ كان يواجه المخالفين له بالكلمة الطيبة». لذا «فالبحث جارٍ دائماً عن هذا الجيل الذي رباه السيد، متعلماً ومقاوماً ومثقفاً ومنفتحاً على الآخرين، ينبذ التعصب وينتهج المحبة»، يقول السيد جعفر.
ويخفف من وطأة الأمر، ليرد أسباب «الحماسة العاطفية» إلى «الشعور بالحاجة إلى إبراز آراء ومواقف السيد الاستشرافية، التي حورب من أجلها منذ جهر بها قبل سنوات، بينما وجدنا أنها أصبحت متبناة من قطاع واسع من اللبنانيين، سواء على المستوى الوطني أو الديني». لكن السيد يجزم بـ«رفض دخول الفكر دائرة التقديس، لأن هذا لا يعلي من شأنه بل يؤطره ويحجمه». أما عن المستقبل، فتسمع على ألسنة محبي السيد الكثير من التفاؤل بإحياء فكره ونهجه، «المنبثق من تمسكه بالإسلام، خطاً وفكراً، وهو لم يراعِ يوماً أحداً في الثوابت». لكن هل كان للراحل وصية سياسية خاصة لتياره؟ أو بالاحرى هل هناك تيار خاص بالسيد، يسبح في بيئة خاصة به؟ يجيب فضل الله: «كل ما تحدث به السيد هو وصية. ولم يكن عنده خطابان، داخلي وخارجي. اما التيار، فهو تيار شعبي عريض عفوي، لا يؤطر طائفياً أو مذهبياً، وهو باختصار، كما كان يطلق عليه السيد، تيار الوعي».

السابق
الانباء: 14 آذار تحضّر لاستنساخ تجربة إسقاط حكومة كرامي عام 2005: ما قبل القرار الاتهامي غير ما بعده لبنانياً وعربياً ودولياً
التالي
نصر الله يخشى الفتنة المذهبية!