جموع الهشاشة وقربان الدم

لا تمرّ أزمة سياسية في لبنان من دون إراقة دماء. لا تحضر الدماء بصفتها المجازية بل كحقيقة واقعة، جسر عبور لتصافح الأيدي الناعمة لاحقاً. الدماء رخيصة. لا شيء يوحي بأنها خلاف ذلك. حتى الأصوات التي تتوعد الأخذ بالثأر لا تلبث أن تتلاشى. فأصحاب الأيدي الناعمة أنفسهم سيحولون دون ذلك تحت شعار "الخطر على السلم الأهلي".

هذا ما حدث وسيحدث في المعارك التي نشبت بين أهالي باب التبانة وجبل محسن، حيث يمتلك أصحاب البدلات الفاخرة ناصية قرار الحرب والسلم. أما جموع الهشاشة فلا تملك سوى الدمّ لتقدّمه. هنا فقط، تكتسب هتافات الافتداء بالروح والدم مغزاها.
تتنوع عناوين "الاختلاف" ليبقى جمر الصراع متّقداً، فيما عناوين "الالتقاء" أكثر تنوعاً. إذ يتشارك "فدائيو" الضفتين الفقر المدقع. إن ما يفعله "شارع سوريا" لا يكاد يتعدى دور الفصل الجغرافي، أو "الميدان"، في أوقات الحرب. فيما يتمدد الحرمان كبساط يربط كلاهما، شاءوا ذلك أم أبوا.

ما نعيشه هو نموذج مشوّه لما يسمى "السلم الأهلي". إذ لا يعقل أن يبقى هذا السلم مقتصراً على تعريف ساذج وبدائي رغم شيوعه. سلمٌ يرتبط فحسب بالامتناع عن استخدام السلاح في الداخل. كأن من ينتشلون أسلحتهم فجأة إنما يفعلون ذلك حباً بالسلاح؟
إن ما يقوم به هؤلاء لا يشتمل حصراً على ردّ الفعل التلقائي، أي تبادل الرصاص بالرصاص، بل يستدرج شكلاً عنيفاً من أشكال دفاعهم عن الجماعة التي ينتمون إليها أساساً، وقبل أي شيء. انتماء إلى الجماعة يتداخل فيه الاجتماعي بالطائفي والمناطقي بالمذهبي والسياسي، بحيث يصعب تبيان الحدود الفاصلة بينها. انتماء إلى الجماعة التي "تؤّمن" لهم بعضاً مما تقاعست الدولة عن تقديمه. الجماعة التي تمنحهم جرعات من الإحساس بالقوة والطمأنينة إزاء شعور متأصل بالخوف والعجز.
لم تنتهج حكومات "السلم الأهلي" سياسة الإنماء المتوازن منذ انتهاء الحرب الأهلية حتى حينه. بل أفرزت طبقة من حديثي النعمة، فيما دفعت الفقراء بفقرهم إلى الحضيض. هناك جموع كثيرة شبيهة بتلك الموجودة في باب التبانة وجبل محسن. أحياء عشوائية تنمو عن أطراف المدن. تنبت تربتها الخصبة بالكثير ممن يلهثون وراء الكسب السريع، بحيث يوكل إليهم القيام بكل الأعمال "المشبوهة"، من قتل وتفجير وترهيب وتخريب، ينفذونها طمعاً بحماية أمنية أو حفنة من المال أو لدعمٍ يزيد من فرص سطوة أفراد على آخرين.

السعي إلى التماثل بغير وجود مقوماته الأساسية مميت. حتى إنه يخلق تباينات فاضحة بين أشخاص هذه الجموع المهمّشة تقود بدورها إلى العنف. هي دائرة لا تنتهي من الفعل وردّ الفعل، بحيث يضحي "السلم الأهلي" خاضعاً لمعيار القوة الذي يختلف في المكان والزمان.

هكذا تصبح حكومة الرئيس ميقاتي حكومة سورية، ما استدعى انتفاض أهالي باب التبانة عليها بالتزامن مع قيامهم بتظاهرة "داعمة" للشعب السوري. "انتفاضة" مرفودة بما تختزنه ذاكرتهم الجماعية عن السلوك السوري الفظّ والعنيف الذي عاشوا وطأته منذ "فتح طرابلس" في ثمانينيات القرن الماضي، والتي على أثرها حظي علويو جبل محسن بالقوة طوال حقبة الوجود السوري. وهكذا أيضاً، يجد أهالي جبل محسن أنفسهم مضطرين للدفاع عما يبدو عنصر قوة لهم في حكومة تشمل حلفاء سوريا، بعدما فرض الحريريون سطوتهم عليهم منذ عام 2005.

إن سلماً أهلياً يظل مرتبطاً بما تمتلكه الأطراف المتنازعة سياسياً من أسباب القوة في الشارع، يجعل منه آيلاً للسقوط في أية لحظة. إن تفعيل أدوار المؤسسات العامة بإمكانها أن تخلق نمطاً من الانتماء يتجاوز الطائفي والمناطقي، وحتى السياسي غير هذا الموجود حاليا، وإلاّ فإن الدم سيبقى يراق رخيصاً.

السابق
الثانوية العامة…الرقابة ناس بسمنة وناس بزيت!
التالي
جماعـات تعيـش.. علـى نهايـة العالـم!