مشـروع قانـون لبنانـي للأحـوال الشخصيـة

قبل خمسة وسبعين عاماً من اليوم، وتحديداً بعد مرور عشر سنوات على قيام دولة لبنان الكبير في العام 1926، ووضع الدستور الأول للبلاد، متضمنا القرار 60 ل.ر. الصادر بتاريخ 13/3/1936، الذي يقرّ بحق اللبنانيين بأن «يتزوجوا وفق قانون مدني معترف به رسمياً». حينها، اضطر المسؤولون، بصورة ظرفية، إلى إقرار الحق المذكور، مع اشتراط عقده خارج لبنان.

وكان قد سبق القرار، صدور مشروع قرار في العام 1926، عن المفوّض الفرنسي السامي الأعلى هنري دو جوفينيل، في الصحيفة الرسمية، يخوّل المحاكم المدنية بالمقاضاة في قضايا الخلاف في الأحوال الشخصية، ويقلّل من الصلاحيات القضائية الطائفية، بما فيها المحاكم الشرعية والروحية والمذهبية، وخصوصاً في الأمور المتعلّقة بالزواج.

وكان من المفترض أن يستكمل المشروع بالحدّ من القوانين الطائفية، ووضع قانون مدني للأحوال الشخصية، ومن ضمنها الزواج المدني. إلا أن الاحتجاجات أتت عنيفة جداً من قبل قيادات الطوائف كافّة، ما اضطر دو جوفينيل إلى تأجيل القرار.
وجاءت «ضربة» تكريس إضافية لسيطرة الطوائف على حياة الناس في الثاني من نيسان من العام 1951 (أحوال شخصية)، حيث تم التأكيد على مذهبية الزواج. وأدى الأمر إلى بروز حركة اعتراض ومطالبة واسعة، تضغط باتجاه إقرار قانون للزواج المدني في المجلس النيابي، لكن ذلك لم يتم. وربما لا يعرف معظم اللبنانيين أن قوانين الأحوال الشخصية التي يخضعون لها في كل تفاصيل حياتهم، هي مجرد مشاريع قوانين أمام المجلس النيابي، لم تتحول إلى قوانين لأنها لم تناقش ولم يصوّت عليها. مع العلم أنه، وفقاً للدستور، يحق للمجلس النيابي وحده التشريع وسنّ القوانين.

يقول المحامي والكاتب إبراهيم طرابلسي في كتابه «أنظمة الأحوال الشخصية في لبنان بين الأصالة والتحديث»، ان «قوانين الأحوال الشخصية للطوائف المشمولة في قانون 2 نيسان 1951 ترتدي صفة مشاريع قوانين»، ليتساءل: «لماذا لا تحال تلك المشاريع إلى اللجان المختصة في مجلس النواب تمهيداً لدراستها ومناقشتها وإقرارها حتى نخرج من حالة الالتباس القائمة؟».

بعد «ضربة» العام 1951-1952، استأنفت القوى العلمانية التظاهر والمطالبة بمدنية الزواج، وطرح «الحزب الديموقراطي» عبر المحامي عبد الله لحود، المشروع الأول قانون للأحوال الشخصية في العام 1971.

وانتعشت آمال العلمانيين في لبنان مجدداً حين طرح رئيس الجمهورية الياس الهراوي، في شباط العام 1998، مشروع قانون الزواج المدني على مجلس الوزراء وصوّت عليه 21 وزيراً، ما أثار جدلاً كبيراً، وخرجت أصداء كثيرة من موالين ومعارضين، ولم يستكمل النقاش في المجلس النيابي نتيجة اعتراض رجال الدين، وعاد النضال إلى ما يشبه «نقطة الصفر».

واليوم، بعد مرور كل تلك الأعوام، يبدو أن معركة إقرار قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية في لبنان، تصعب، سنة بعد سنة، ويوماً إثر يوم. إذ بدأت بعض القوى السياسية الفاعلة بإعلان رفضها لمشروع القانون الذي قدمته الدكتورة أوغاريت يونان، بمساهمة من الدكتور وليد صليبي، وحملته جمعية «شمل» وعدد من الهيئات المدنية إلى المجلس النيابي، حتى قبل مناقشته على طاولة اللجان النيابية المشتركة، انطلاقا مما أسموه «تعارضه مع الأديان وكتبها المقدسة».

في المقابل، وفي ظل الشلل الحكومي المستمر على مدى ما يقارب خمسة أشهر، يبدو ان الحراك الوحيد في البلاد هو مدني بامتياز، على الرغم من الانقسام الطائفي والمذهبي المستعر إلى درجة لم يعرفها لبنان حتى في خضم الحرب الأهلية.. حرب انتهت عسكرياً فقط، على ما يبدو.

هنا محاولة للإضاءة على مشروع قانون يونان، كمساهمة في شرحه، وإن بإيجاز، للمواطنين، على الرغم من أن معظمنا لم يناقش، ولا يعرف، محتويات قوانين الطوائف التي تحكمنا، ونخضع لها منذ ولادتنا وصولاً إلى زواجنا وإرثنا وموتنا، مروراً بكل ما يتعلق بمفاصل حياتنا.

تقول رئيسة «جامعة اللاعنف في لبنان والعالم العربي» الدكتورة اوغاريت يونان، انها، لدى وضعها مشروع القانون، درست مشاريع القوانين المدنية التي سبق وقدمت في لبنان، بالإضافة إلى قوانين مدنية معمول بها في الخارج، وذلك للوصول إلى قانون جديد وشامل وحديث.

ويسعى مشروع القانون إلى التماشي مع خصوصية لبنان وموجبات حياة مواطنيه، على أساس الاستفادة من ثغرات مشاريع القوانين السابقة.
وأطلق يونان وصليبي على «قانونهما» تسمية «مشروع قانون لبناني للأحوال الشخصية»، كونها المرة الأولى، في حال إقراره، التي يكون فيها للبنان، كدولة، قانون لبناني للأحوال الشخصية يشمل جميع فئات المجتمع، كون الموجود لا يتعدى قوانين طوائف من جهة، وقوانين مدنية «مستوردة» تحكم من اختاروا الزواج مدنياً ولكن خارج لبنان، من جهة أخرى.

فالدولة مثلاً لا علاقة لها بأحكام قوانين الطوائف، ولا بأحكام القوانين المدنية التي يعقدها البعض خارج لبنان، هي فقط تقبل وتطبق ما تنص عليه هذه القوانين، من دون أن يكون لديها سلطة التدخل في أي شيء.
وقدّم مشروع القانون على أساس أنه «اختياري»، أي أن الذي لا يختار القانون اللبناني للأحوال الشخصية، يمكنه اختيار قانون طائفته والاستمرار بالخضوع له، أو لقانون أي طائفة أخرى يختار الانتقال إليها. أي أن القانون لا يهدف الى القضاء على الأحكام الدينية، بل أن يقدم بديلا إضافيا لمن يريده.

وتنص المادة الأولى منه على أنه «يطبّق هذا القانون على الذين عقدوا زواجهم وفقـاً لأحكامه وعلى أولادهم وفروعهم».

ويمكن لمن يختار القانون المدني للأحوال الشخصية أن «يحتفل بزواجه لدى أي مرجع دينيّ» الا أن أحواله الشخصية تبقى خاضعة لأحكام القانون المدني.
ويمنع القانون على من يختار الخضوع له «أن يعود عن هذا الاختيار ما لم يكن زواجه قد عـُقد وانحلّ من دون أيّ آثار».

كما يمكن للمقيم من اللبنانيين في الخارج، أن يختار هذا القانون على أساس «أن يتمّ زواجه في الخارج أمام قنصل لبنان بحسب الصيغ المفروضة في هذا القانون، أو أمام السلطة الأجنبيّة المختصّة بحسب الإجراءات المتـّبعة في البلاد التي يُعقـَد فيها الزواج وبالصيغ الشكليّة المرعيّة فيها»، وفقاً للمادة 31 منه.

وعليه، تقول يونان ان مشروع القانون الحالي هو حماية للحب اللبناني المختلط، بدلاً من الوضع القائم والقاضي بمقاصصة أطرافه ومعاقبتهم وترك حقوقهم منتقصة. وطبعاً، لا يقتصر مشروع القانون على الزواج المدني بل يتعداه إلى الإرث، الذي تركته مشاريع قوانين سابقة للطوائف.

وينطلق اقتراح مشروع قانون يونان وصليبي من مبدأ اساسي يكرّس المساواة الحقيقية، في كل شيء، ما بين الرجل والمرأة، حتى أنه يعتبر في المادة 69 منه، الخاصة بالحضانة انّ «رعاية الأطفال القاصرين، بعد صدور الحكم ببطلان الزواج أو الهجر أو الطلاق، تحدّدها المحكمة المدنيّة المختصّة، بعد أخذ مصلحة القاصرين والاستئناس برأيهم، وحالة المطلّقين بعين الاعتبار، ومَنْ مِنَ الزوجين أو أصولهما أو فروعهما أقدر على رعايتهم والعناية بهم»، أي ان الجوهر والأولوية المصلحة العليا للطفل.
وبالإضافة إلى كل ما يتعلق بالزواج أمام المحاكم المدنية، يضع مشروع القانون أحكاماً للإيصاء (حرية الإيصاء) والإرث (المساواة التامة بين الجنسين) والهجر، ومراعاة أوضاع ذوي الإحتياجات الخاصة، وقواعد إثبات البنوة والنسب، والتبني، والولاية والوصاية والأهلية ومعايير تحريرهم.
ومن النقاط الحديثة في القانون، الذي يمنع تعدد الزيجــــات طبعاً، ولا يعتبر اختلاف الدين عائقاً أمام الزواج أو الإرث، انه يحتسب القيمة الاقتصادية للــــعمل المنزلي سواء أدّته المرأة أو الرجل، كما يســـاوي في طلب الطلاق بين الطــــرفين، ولا وجود للعصمة في يد أي منهما.
ويحدد مشروع القانون الحالي سن الزواج بـ18 سنة، وينص على استحداث ملاك خاص رسمي في دوائر الأحوال الشخصية يعنى بشؤون الناس الذين اختاروا الخضوع له لتسيير أمورهم.. على أن تنشأ ضمن هذا الملاك وحدة للمختصين بالوساطة العائلية وإدارة النزاعات الأسرية بطريقة لاعنفية وتقديم الاستشارات الزوجية والعائلية.
والأهم، وفق يونان، أن «القانون ليس للمقارنة مع قوانين الطوائف الموجودة، بل هو قانون للراغبين بالتحرر من القوانين الطائفية، وهو قانون لدولة لبنانية عصرية في العام 2011، لدولة جعلت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في متن دستورها، كما أقـرّت اتفاقيات دولية تعنى بحقوق الطفل وبالقضاء على جميع أنواع التمييز ضد المرأة».
واتبع القانون المعايير الإنسانية والحقوقية في التعابير المستعملة، فلا وجود لكلمات مثل «معتوه» و»سفيه»، مثلاً.
الأسباب الموجبة للقانون
وضع الكاتبان والمناضلان أوغاريت يونان ووليد صليبي، الإقرار الرسمي القانوني بالزواج المدني تاريخياً في البلاد، في متن الأسباب الموجبة لمشروع القانون اللبناني للأحوال الشخصية، الذي قدماه إلى مجلس النواب، ويقع في 244 مادة، «ذات مضمون أكثر تطوّراً، مع الاستفادة بالطبع من اقتراحات ومشاريع سابقة في تاريخ النضال لإقرار مثل هذا القانون في لبنان»، وفق يونان نفسها.
وتنص الأسباب الموجبة على «حماية حق الشباب في زواجهم المدني في بلدهم وبرعاية القانون اللبناني، واستكمال الدولة تشريعاً ناقصاً فيها منذ القرار 60 ل ر في العام 1936، وعدم جواز أن تكون سيادة الدولة على قوانينها منتقصة، كما أن الدستور يُلزم الدولة بواجب التشريع فلا يجوز لها التخلـّي عنه، حيث نصّ الدستور اللبناني بوضوح، في المادة 18 منه، على أنه لمجلس النواب ومجلس الوزراء حق اقتراح القوانين، كما أنه على لبنان أن يحسم صيغة محترمة من داخله للأحوال الشخصية، والدولة مسؤولة عن الحماية القانونية للزيجات المختلطة بين اللبنانيين».
وينطلق يونان وصليبي في الأسباب الموجبة، من أن «الدين أو المذهب لا يشكل مانعاً بين اللبنانيين أمام الزواج ومفاعيله، ولا يقوم زواجٌ إلا على العدالة العائلية والمساواة بين المرأة والرجل، وأن لبنان ملزم تطبيق الاتفاقيات العالمية لحقوق الإنسان الموقـِّع عليها». ويستندان أيضا الى «ازدياد مطالبة المجتمع بحلّ معاناة عائلية ناتجة من القوانين السائدة»، وضرورة وضع إضافات جديدة وإنسانية في مجال الأحوال الشخصية في لبنان.

السابق
الطيور المهاجرة تعاني من التمدد العمراني!
التالي
القرارات الصعبة