“الشرق الأوسط” عند الحدود اللبنانية ـ السورية: أهالي تلكلخ في مواجهة “الشبيحة”

«عشرات الدبابات في محيط تلكلخ وداخلها، جثث في الشوارع فاحت رائحتها لا أحد يستطيع سحبها، وثمة جرحى في الشوارع أيضا لا يمكن إنقاذهم ولا نعرف ماذا سيحل بهم، لأن القنص لا يتوقف، والقتل عشوائي، البيوت تهدم وتحرق والسكان يروعون» هذا ما أكده لـ«الشرق الأوسط» ظهر أمس عدد من الفارين من مدينة تلكلخ السورية، الذين كانوا قد عبروا للتو النهر الصغير الفاصل بين البلدين ووصلوا قرية البقيعة اللبنانية. قال أحدهم وهو لا يقوى على الكلام: «سرت عبر الجبال 8 ساعات سيرا على الأقدام كي أصل إلى هنا»، وأكد آخر أن الطريق بات خطرا للغاية ولم يبق لنا سوى الجبال، هذا ما يفعله أيضا النساء والأطفال. وأكد الواصلون أنهم قضوا ليلة مرعبة قبل أن يغادروا تلكلخ بسبب قصف المدفعية والدبابات. وبينما كنا نتحدث مع الواصلين بدأ رشق الرصاص، وأخذ الناس يختبئون، ليقول أحدهم: «حتى ونحن في لبنان يقنصوننا. على بعد كيلومتر واحد من هنا توجد جثة مرمية على الأرض، كلنا نعلم بها، ولا نستطيع جلبها أو دفنها».

جسر البقيعة الذي كان النازحون يمرون عبره إلى الأراضي اللبنانية بات مقفرا، وعلى الجانب السوري منه، يقف عسكري سوري نراه من بعيد، ويحاول الجيش اللبناني أن يمنع الناس من الاقتراب من المنطقة بعد وقوع قتيلة يوم أمس وإصابة أكثر من 6 أشخاص بالرصاص. على بعد أمتار من الجسر الحدودي، وجد النازحون لأنفسهم ممرا جديدا، آلاف من رؤوس الحيوانات عبرت هذا النهر يوم أمس بينها البقر والأغنام والخيول التي هربها أصحابها من محيط تلكلخ وباتت على الجانب اللبناني «هذه أرزاقنا التي نعيش منها (يقول أحد السوريين) ونخشى أن يقتلها الشبيحة».

يقول أحد السوريين: «انظروا إلى الشبيحة»، ونرى 4 رجال في الجهة السورية المقابلة لنا بلباس مدني وهم يحملون أسلحة يسيرون وكأنهم يتنزهون. ويضيف «مشكلتنا مع هؤلاء ومع الأمن وليس مع الجيش السوري». يصر الواصلون من تلكلخ على الكلام، حين يعلمون أننا من الصحافة، شرط عدم تصويرهم أو ذكر أسمائهم، «معظمنا ذقنا السجن والتعذيب ونخشى انتقامهم». تتطابق رواياتهم حول «ثلاث عائلات ذبحت في منازلها بالسكاكين في تلكلخ هي عائلات المصري، وأكرومي وجنعير. إحداها تتكون من أربعين شخصا». «جيرانهم العلويون هم الذين ذبحوهم» يقول أحدهم. ويوافق الآخرون على الرواية قائلين «إن تلكلخ فيها سنة وعلويون سلحهم النظام كي يقتلونا، ومع ذلك يختارون الذبح». الكلام عن استخدام السكاكين للقتل يتكرر على ألسنة أهالي تلكلخ، وكذلك مسألة تسليح العلويين. ويروي الواصلون أنه «بعد أن دخل المسلحون تلكلخ أمس، أمهلوا الأهالي ساعتين ليخرجوا من بيوتهم، أوقفوهم على جسر الزارة، أسروا الرجال فيما اعتدوا بالضرب على النساء، وداسوا الناس بأحذيتهم وهم مكبلون، تماما كما فعلوا في بانياس».

يشير النازحون إلى سيارة شحن على الجهة السورية من الحدود ويقولون إن الشبيحة رشوها بالرصاص وأصيب من كانوا فيها قبل وصولهم إلى لبنان، «واضطررنا لأن نخاطر ونذهب لنأتي بهم وهم ينزفون». يبكي أحد النازحين الواقفين على الحدود ويقول: «أختي لا تزال هناك ولا نعرف أي خبر عنها أو عن أولادها، فالخطوط الهاتفية مقطوعة، ولا سبيل للتواصل معها»، رجال آخرون يجتمعون حول شخصين يدمعان، ويقول أحدهم إنه وصل للتو من تلكلخ «لقد هدموا بيتي وبيتين لأخوين لي وبيت جاري هذا الذي يقف أمامك هنا، لقد دكوا بيوتنا بالمدفعية». ويرفع قميصه ليرينا آثار التعذيب على جسده وهو يقول: «بقيت سنة ونصفا في السجن تحت الأرض، وعذبت كما لو كنت يهوديا ولم تعرف عائلتي عني شيئا طوال هذه الفترة، ولم أخرج إلا من شهر، وها أنا اليوم بلا مأوى وليس لأحد من عائلتي بيت يأويني، ماذا أفعل؟». يقول آخر «منذ ربع ساعة اتصلت بأقرباء لي في البرج وأخبروني أنهم أحرقوا بيوتا كثيرة». نسألهم كيف يتم الاتصال والخطوط مقطوعة، فيقولون إنهم يهربون شرائح لأرقام لبنانية، بات منها الكثير في تلكلخ كي يتسنى لهم الاطمئنان على من هم هناك.

الفظائع التي يتحدث عنها السوريون النازحون تبدو أقرب إلى الخيال، يؤكد اثنان أنهما رأيا بأم العين أحد الشبيحة يسكب الجاز على فتاة معاقة في الثامنة من عمرها ويهدد بحرقها، لولا أنها صرخت وبكت وهجم الناس لتخليصها من بين يديه. يعلق أحدهم «ما الفرق بين ما حدث في حماه عام 82، وما يحدث في حمص أو تلكلخ اليوم. لا يوجد صحافة عندنا ليعرف العالم بوحشية ما يحدث، ولا إسعاف ولا مستشفيات لتسعف المرضى. مستشفى تلكلخ نصبوا رشاشات على سطحه وبات مكانا لاصطياد السكان. لا مكان لمعالجة جرحانا، إنهم يموتون ولا يجدون من يعتني بهم».

نسأل عن عدد القتلى والجرحى، فيجيبون أنه من المستحيل معرفة الأرقام، لا يمكن لأحد أن يخرج من منزله. عدد المفقودين أيضا لا يمكن أن يحصى، كل منا له قريب مفقود، وثمة أطفال اختفوا لا نعرف عنهم شيئا. يقول رجل «هربنا في حالة ذعر شديد، نركض ويركض أطفالنا خلفنا، ثمة من عد أولاده ولم يعرف كيف نقص عددهم».

نحو الساعة الواحدة والنصف ظهرا يوم أمس، بدأت الأخبار تتوارد عن قصف قرية حلات السورية، التي تبعد كيلومترات قليلة عن تلكلخ. وقال أحد السوريين إنها كانت محاصرة ولم تقصف إلا بالأمس. وهكذا توجه المتطوعون والصحافيون إلى نقطة حدودية لبنانية أخرى عند قرية الدبابية اللبنانية المقابلة للقرية السورية الجديدة المنكوبة بانتظار نازحين جدد ومآس جديدة وجرحى وقتلى، وقصص شهود عيان.

وكانت الحدود الشمالية اللبنانية قد شهدت أحداثا كثيرة يوم أول من أمس، وأصيب عدد من المواطنين اللبنانيين بالرصاص السوري بينهم جندي. وأصدر الجيش اللبناني بيانا يوم أمس جاء فيه: «نتيجة الإشكالات الأمنية التي حصلت خلال الآونة الأخيرة على الحدود اللبنانية السورية في منطقة الشمال، عززت وحدات الجيش انتشارها الميداني على امتداد هذه الحدود، كما أقامت نقاط تفتيش ثابتة ومتحركة، وسيرت دوريات مكثفة لمنع أعمال التسلل في الاتجاهين. وتحذر قيادة الجيش من أي محاولة للإخلال باستقرار هذه المنطقة وتعريض حياة المواطنين على جانبي الحدود للخطر، وتؤكد أنها ستتخذ أقصى الإجراءات القانونية بحق المخالفين».

السابق
مؤتمر وطني ينقذ لبنان
التالي
المندوبة الدائمة في الأمم المتحدة: إسرائيل في أسوأ وضع في تاريخها على الساحة الدولية