تركيا “النموذج” وكمّ أفواه الصحافيين

تركيا الاقتصاد الأسرع نمواً في أوروبا والملتزمة علناً اجتثاث العسكريتاريا لا تستطيع أن تكون نموذجاً يُحتذى ما دامت حكومتها ترفض قبول الانتقاد، ويشيح الاعلام الخائف بنظره عما يجري.
تخيّلوا لو أنّه في أيام ووترغيت، مثُل بوب وودوارد وكارل برنشتاين أمام المحكمة بتهمة أنهما جزء من المؤامرة التي حاولا الكشف عنها. ثم تخيّلوا أن شريحة واسعة من الجسم الصحافي في واشنطن بدأت تربّت على ظهر المدّعين العامين الفيديراليين لأنهم قاموا بمهمّتهم كما يجب.

هكذا هي حياة الصحافي في تركيا اليوم، حيث يعاقب النظام القضائي الأبرياء فيما تشيح السلطة الرابعة بنظرها عمّا يجري. تحوم الشبهات الآن حول تركيا بأنها البلد الذي يسجن أكبر عدد من الصحافيين – 57 صحافياً بحسب تقرير صادر عن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. وهناك ألف قضيّة أخرى يجري النظر فيها ضد صحافيين جريمتهم الوحيدة كتابة تقارير تنقل الواقع بصدق.

بيد أن تركيا هي أيضاً الاقتصاد الأسرع نمواً في أوروبا، وهي مرشّحة للعضوية في الاتحاد الأوروبي، وتلتزم علناً اجتثاث القوى العسكريتاريا والمناهضة للديموقراطية التي شوّهت ماضيها الحديث. يجب أن تكون تركيا منارة للبلدان الأخرى ذات الغالبية المسلمة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط التي تحاول التخلّص من نير السلطوية. لكنها لا تستطيع أن تكون نموذجاً يُحتذى ما دامت حكومتها ترفض قبول الانتقاد ويشيح الإعلام الخائف بنظره عمّا يجري.

في تركيا أعداد لا تُحصى من الصحافيين والمصوّرين المتلهّفين للقيام بعملهم. وطوال سنوات، تعامل هؤلاء الصحافيون مع القانون الجزائي البدائي المطبَّق في البلاد على أنه طقس عبور لا بد منه في المهنة. ولي تجربة في هذا الإطار، فقد سُجِنت قبل عشرة أعوام بتهمة "إهانة الجيش" في العمود الذي كنت أكتبه في إحدى الصحف التركية. وقد صُرِفت من عملي في نهاية المطاف بعدما مارس قادة الأركان المنزعجون من تقاريري عن المسألة الكردية، ضغوطاً على المسؤولين في الصحيفة لطردي.
لكن القمع من جانب الدولة ليس المشكلة الوحيدة؛ فاللوم يقع أيضاً على العمود الفقري الضعيف للسلطة الرابعة في تركيا. الرقيب الأكثر فاعلية في تركيا اليوم هو، ويا للأسف، الصحافة نفسها. يعني تبنّي موقف انتقادي للسياسات الحالية الوقوف في الجانب المعارض للحكومة، وهو ما لا يفعله المحرِّرون إلا بعد درس المخاطر جيداً. فالأعمدة التي تفضح الفساد أو تنتقد السياسات البيئية التوسّعية للحكومة تُمنَع من النشر وحسب.
عندما تحاول الصحف التركية التعبير بصدق عن آرائها، غالباً ما يتخلّى عنها المعلِنون بذريعة أنهم "تعرّضوا لضغوط".

يقبع بعض الصحافيين حالياً خلف القبضان بتهم تتّصل بمحاكمة تآمرية مستمرّة منذ وقت طويل وتهدف إلى تفكيك ما يصفه المدّعون العامون بأنه شبكة منظّمة – يُطلَق عليها اسم "إرغينيكون" – سعت إلى تنفيذ انقلاب عسكري. وتُوجَّه إلى آخرين تهمة انتهاك القيود الشديدة المفروضة على إعداد التقارير حول إجراءات المحاكمة، بما في ذلك المحاكمة في قضيّة "إرغينيكون".

معظم المشتبه بهم في قضية "إرغينيكون" هم ضبّاط عسكريون في الخدمة أو متقاعدون متّهمون بالتآمر أو القيام بأعمال عنف من أجل تأليب الرأي العام على "حزب العدالة والتنمية" الحاكم الذي يستمّد جذوره من تيّار إسلامي.
لكن في الآونة الأخيرة، أمرت السلطات باعتقال صحافيَّين محترمين هما نديم سينر وأحمد سيك اللذين كانا يؤيّدان من قبل محاكمة شبكة "إرغينيكون".

كشفت تقارير سينر أنّ الشرطة أحجمت عن العثور على المسؤولين الحقيقيين عن مقتل رئيس التحرير التركي-الأرمني هرانت دينك عام 2007 لأنه كان من شأن التحقيق أن يقود إلى الشرطة نفسها. ووجّهت مخطوطة سيك التي لم تُنشَر، والتي حاولت الشرطة منع تداولها عبر الإنترنت لكنها فشلت في ذلك، أصابع الاتّهام إلى مجموعة دينية بارزة تُعرَف بحركة "غولين". وقد زعم سيك في كتابه أن أعضاء المجموعة الذين تجمعهم روابط وثيقة بـ"حزب العدالة والتنمية"، اخترقوا الشرطة.

الشهر الفائت، اعتبرت في العمود الذي أكتبه بانتظام في النسخة الإنكليزية من صحيفة "زمان" – التي ترتبط بحركة "غولين" – أن معركة الحكومة ضد القوى المناهضة للديموقراطية تتّخذ حكماً منحى غير ديموقراطي.
لست عضواً في حركة "غولين" لكنني أعتبر أنه بإمكان صحيفة "زمان"، على غرار "كريستشان ساينس مونيتور" في الولايات المتحدة، أن توفّر منبراً للآراء المختلفة. ولذلك كتبت كلاماً بديهياً، وهو أنه من واجب الصحيفة أن تدافع عن حرّية سيك في التعبير من أجل حماية نزاهتنا. فخسرت وظيفتي بسبب المقال.

نشر رئيس تحريري السابق مقالاً برّر فيه صرفي من العمل زاعماً أنني وقعت ضحية "بروباغندا قويّة ومظلمة". ولست الوحيد، فقد ألغي عمود جنيد أولسيفر من صحيفة "حرييت" المنافسة لـ"زمان" بعدما فرض عليه زميل له رقابة غير رسمية طوال أشهر طالباً منه مراجعة مقاطع قد لا تعجب الحكومة.

إذاً فيما نحتفل باليوم العالمي لحرية الصحافة، لنأمل بأن يتم الإفراج عن الصحافيين القابعين في السجون التركية إلى أن تثبت المحاكم أنهم مذنبون – وبأن يتخلّص زملاؤهم الموجودون خارج السجون من القيود التي تكبّلهم ويزاولوا مهنة الصحافة كما يجب.

ترجمة نسرين ناضر- النهار

السابق
القراءة بالعلم بعيداً من التسييس
التالي
رسالة من وهاب