عين الزيتون.. رأت النكبة وأوجاعاً غَفِل عنها العالم

في الوقت الذي انشغل فيه ورثة النكبة في إحصاء مصائبهم وشهدائهم، ضاعت بعض التفاصيل في الأرشيف المتشعب لذلك العام، بعضها أخفي في أرشيف العصابات اليهودية العسكرية، وبعضها سقط «سهواً» من عين الصحافة الغربية، والآخر بقي يحتمي في ذاكرة شعب متعب جداً، في رائحة المكان، العابقة بالدم، وبعضها أيضاً، كشف في سجلات المؤرخين، الذين لم ينجحوا في خلق ندم أو ألم أو لحظة حق في ضمير الرأي العام الملتزم بالصمت.. الصمت أحياناً، قمة التخاذل.
في بالنا يا إخوتي، بضع مجازر هائلة، اسقطت آخر حد من القيم الأخلاقية والانسانية عن العصر الحديث، تبسط تفاصيلها وسع أعوام، وتختصر ملامحها في عام واحد، 1948، لم يكن هناك أي فرصة للتغاضي عن مجزرة دير ياسين، والطنطورة، واللد، والرملة وسعسع وغيرها، لكن حتماً هناك نوع من النسيان الإجرامي الذي وقع بحق عين الزيتون.. ففقأها حقاً.
يقول أغلب من بحث عن تفاصيل هذه المجزرة أو شهدها ومنهم الباحث د. الياس زيتون الذي كتب عن هذه القرية: «إن ما جرى في عين الزيتون، يفوق ما حصل في دير ياسين».

تاريخ القرية
تقع القرية (التي وصفت بأنها احدى أجمل القرى في فلسطين) على المنحدر الغربي لوادي الدلب، قرب الطريق العام المؤدي الى مدينة صفد، ويفترض الباحثون أن يكون وادي الدلب هو ما سماه الجغرافي العربي الدمشقي، وادي دليبة، الذي يقع بحسب ما وصفه بين ميرون و صفد، وجاء في وصفه: إن الماء يتدفق من عين هناك ساعة أو ساعتين ثم ينقطع، والواقع أن اسم القرية يوحي بان عين ماء كانت في الجوار، وكانت قرية في ناحية جيرة (لواء صفد) تبلغ مساحتها 1100 دونم وعدد سكانها 820 نسمة وعدد منازلها 127 منزلاً. وكانت تشتهر بزراعة القمح والشعير والزيتون بالإضافة الى كروم العنب. تعد عين الزيتون من ضواحي صفد، نظراً الى قربها منها ومع تمدد القرية ونموها صارت المنازل الحجرية تبنى الى الجنوب في اتجاه صفد.

عن المجزرة
بدأ الهجوم على القرية صباح الأول من أيار من عام النكبة، ونفذت الهجوم وحدة من قوات البلماح وهي جناح ضمن عصابة الهاجاناه، بدأته بالقصف بمدافع الهاون منذ الفجر وأتبعته باقتحام بالقنابل اليدوية والأسلحة الرشاشة.
كان الهدف من الهجوم السيطرة الكاملة على القرية تمهيداً لاحتلال صفد بعد معارك شديدة الضراوة، قام بها المتطوعون السوريون ورجال القرية. انسحب المدافعون عن القرية لشدة القصف ونفاد ذخيرتهم. وبقي الأهالي من الشيوخ والنساء والأطفال في القرية. عندها تمكنت البلماح من احتلال القرية، واعتقلت في البداية وبطريقة عشوائية 37 شخصاً من أبناء القرية وقيدوهم، واحتجز الباقي في مسجد القرية. وفي اليوم التالي وجد المعتقلون قتلى ضمن مجموعة من 70 قتيلاً جُمعوا من عدة قرى فلسطينية.
وفي تفاصيل أخرى عن المجزرة، ذكر المؤرخ «الاسرائيلي» بني موريس نقلاً عن السجلات العسكرية المفرج عنها: إن قائد البلماح المكلف احتلال القرية (موشيه كالمان) كلف شخصين من جنوده بتنفيذ المجزرة، وبعد قتل الأسرى، أمر الجنود بفكّ وثاقهم تحسباً لزيارة الصليب الأحمر الذي بدأ يكشف الحقائق عن جرائم العصابات اليهودية.

روايات متعددة
معلومات أهل القرية تقول أن البلماح اقتادوا رجال القرية إلى بيت حمد خطاب، وقام الضابط اليهودي آمر الوحدة التي دخلت القرية باختيار الشبان من بين الحضور، وسقوهم إلى مستعمرة (عين زيتيم) المقامة على أراضي القرية، واختفت آثارهم بعد ذلك.
ويقول ألان بابيه أحد المؤرخين الجدد في الكيان الصهيوني:
دخلت قوات من البلماح قرية عين الزيتون بقيادة كالمان ظهراً بعد أن أمطروها بوابل من القصف العنيف بمدافع الهاون، والقنابل اليدوية. انسحب على أثرها المتطوعون السوريون والمدافعون عن القرية. بعد ذلك خرج النساء والشيوخ والأطفال وبعض الشبان الذين حوصروا ولم يتمكنوا من الانسحاب، من مخابئهم في القرية يرفعون الرايات البيضاء معلنين استسلامهم لعلهم يلاقون معاملة الأسرى، وسيقوا إلى ساحة القرية. وبمساعدة أحد عملاء الاستخبارات «الاسرائيلية»، وبحسب قائمة أُعدّت سلفاً بأسماء المقاومين، اعتقل أكثر من ثلاثين شخصاً، وسيقوا إلى مكان مجهول ثم أعدموا. ثم اختير سبعة وثلاثون يافعاً تراوحت أعمارهم بين الثالثة عشرة والثامنة عشرة وأوثقت أيديهم إلى ظهورهم، ثم قاموا بإعدامهم أيضاً.
وقد أحصى أهل القرية بعض هؤلاء الشهداء، فكان معظمهم من عائلات حميد وإدريس وغريب والشعبي وخطاب.
إسقاط عين الزيتون، جاء في إطار عملية يفتاح (الخطة د) انه بعد أن تسلمت العصابات اليهودية من البريطانيين معسكري روشبينا وفيلون، أخذت قراراً باحتلال قرية عين الزيتون وقرية بيريا المجاورة لها، وبذلك أمنت لها طريقاً يصلها بالحي اليهودي في صفد عن طريق الجبال، حيث بدأ الجنود والأسلحة بالتدفق على صفد، بينما عزلت صفد عن القرى الواقعة شمالها وشمالها الغربي.وأبقت «الهاجاناه» منفذاً واحداً لصفد هو طريق وادي الطواحين لتهجير سكانها عبره، وهو ما يمثل عنصراً ثابتاً في عمليات (الخطة د) في كل المناطق. وفي الثاني من آيار، قصفت هاونات «البلماح»، دون تمييز قرى برعم وكفر الخياط وقباعة شمال روشبينا (الجاعونة) لإرغام أهلها على الرحيل، والتمهيد لاحتلال صفد وتهجير سكانها. أدى ذلك إلى إخلاء قرية عكبرة من الشيوخ والنساء والأطفال وتهجيرهم إلى قريتي الفراضي والسموعي ونشوء موجة نزوح فلسطينية، وقد تم هذا النزوح على إيقاع مذبحة عين الزيتون في 2-3-4 آيار.
وقام الصهاينة مباشرة بنسف بيوت القرية ومسحها عن وجه الأرض. فأضحت عين الزيتون أثرا بعد عين وبنيت قريبا منها مستخربة «اسرائيلية»… وتذكر الوثائق أن المجزرة شملت قريتي عين الزيتون وبيريا وأنها حصلت بعد حشد للشباب الأسرى في مسجد عين الزيتون ونسفه بمن فيه.

كتب عن المجزرة
اوري ميلشطاين، باحث ومفكر ومؤرخ في التاريخ العسكري لـ«اسرائيل» ومحلل لأحداث وقضايا حصلت في العام 1948 ، اصدرعدة كتب باللغة العبرية والانجليزية عن هذه المسألة، وكان قد اصدر كتابا باللغة العبرية في العام 2007 تحت عنوان «القصة الحقيقية لمذبحة دير ياسين» وفي الكتاب تحليل واضح وجرئ لاحداث دير ياسين مقارنة مع مذبحة عين الزيتون في العام 1948.
يعتمد الكتاب على مصادر منها: ارشيف الهاجاناه، ارشيف كيبوتس هبلماحيم، كتب البلماح، ارشيف جيش الدفاع «الاسرائيلي» ومقابلات مع قادة عسكريين قادوا واشتركوا واداروا العمليات في عام النكبة، بالاضافة الى مصادر اخرى. وقد أوكل الدكتور اوري ميلشطاين الى الدكتور الياس عفيف سليمان من قرية الجش ترجمة الكتاب الى اللغة العربية.

شاهد من أهله
يتسحاق غولان جندي من الكتيبة الثالثة قال: «احضر 30 من الاسرى الى كنعان للتحقيق معهم على يد رجال المخابرات من الهاجاناه.. بعد التحقيق جاءت المشكلة، ماذا سنفعل بهم؟ لم يكن هناك خيار، كان الخطر ان يهربوا الى صفد ليخبروا هناك ان عددنا وعتادنا قليل، من الممكن انهم قتلوا مكبلين وفي صباح اليوم التالي ارسلت فرقة الى هناك لدفنهم».
نتيفا بن يهودا وصفت المذبحة كالتالي: «عندما دخل الزملاء تقصد (الجنود) الى القرية قاموا بتجميع من بدا لهم جنديا او ضابطا حقيقيا، جرى تكبيل ايديهم وارجلهم والقاءهم الى الوادي العميق تحت عين الزيتون وقد بقوا يومين على هذه الحال. ويتردد السؤال، ماذا نفعل بهم…بعد ثلاثة ايام تبين انهم قتلى، ولكن الجنديين التابعين للبلماح الذين قاموا بالقتل بأمر قائد الكتيبة تركوا الجثث مكبلة اليدين والرجلين، وكان هناك تخوف من وجود عيون غريبة ترى ماذا يجري مع اولئك الاسرى».
فتش قائد الكتيبة عن اشخاص لا يخيفهم الدم وانتقاها هي (نتيفا بن يهودا) التي قامت مع وحدة تحت بأمرتها بالنزول الى الوادي، فكت الاشرطة والحبال التي كانت الجثث مكبلة بها لإخفاء طريقة القتل. (نتيفا بن يهودا) أكدت انها هي من قامت بذلك. وتقول في كتابها: «ربما كانت هذه اللحظة التي غيرت حياتي.. كان ذلك فظيعا!! اخفاء ذلك الحدث، لم يحدث ولا مرة ان شيئاً مما حصل قد تسرب الى الرأي العام».
بعد ثلاثين سنة تقريبا اعتز موشيه كلمان بالمجزرة قائلاً: «بعد احتلال عين الزيتون توجب علي احتلال صفد ولم يكن عندي الوقت للتعامل مع الاسرى .. لو اطلقت سراحهم كانوا بالتاكيد سينظمون إلى المقاومين في صفد» .
في 6 ايار 1948 التقطت وحدة التنصت التابعة لجهاز المخابرات في منظمة الهاجاناه في القدس مكالمة هاتفية بين ضابط الجيش البريطاني ماكميلان وضابط «اسرائيلي» في شمال فلسطين، طالبا من الاخير تقريرا عن مذبحة عين الزيتون، ما يؤكد حصولها وعلم بريطانيا بها.

تأنيب الضمير !
على ما يبدو أن اعمال قتل الاسرى في عين الزيتون كانت في غاية الترويع وقمة الإرهاب، حتى أن رووبين نيتسر القائد المسؤول عن احتلال القرية وعن القوات التي بقيت فيها بعد استسلامها، اعترف في العام 1981 للدكتور اوري ميلشطاين بأن الندم يساوره: «يزعجني تأنيب الضمير حتى اليوم!! فبعد احتلال القرية تبين ان الفلاحين بقوا في بيوتهم مع نسائهم واطفالهم ولم يهروبوا، لقد جمعناهم خارج بيوتهم في مكانين وقلنا للزملاء الجنود بعدم اخذ الغنائم، وتجميع الغنائم ذات القيمة في المسجد، كنا هناك طوال اليوم، تكلمنا مع ابناء القرية وكانوا مسالمين. وقال لي موشيه كلمان على مسمع من الجنود: خذ كل الشباب، أصعدهم الى الطابق الثاني في أحد البيوت وفجر المبنى من الأسفل بمن فيه!.. كان الأمر فظيعاً»

القرية اليوم
تتبعثر أنقاض المنازل الحجرية في أرجاء الموقع الذي غلبت عليه أشجار الزيتون ونبات الصبار الصامد، وبقيت بضعة منازل مهجورة لبعضها مداخل مقنطرة ونوافذ طويلة تعلوها أشكال مقنطرة متنوعة، وفي أحد المنازل حجر أملس يعلو قنطرة المدخل نقشت عليه البئر وعين الماء أيضاً.

السابق
ميقاتي استقبل وفدا من اتحاد الموانىء العربية
التالي
إرجاء لقاء النائب بهية الحريري ووفد حماس بسبب وفاة المستشار مولوي