المعركة الضارية لقتل زعيم القاعدة.. كانت من جانب واحد

عنما دخل رجال الأمن الباكستانيون الغرفة التي قُتل فيها أسامة بن لادن، وجدوا ابنته تُرقد رأس والدتها الجريحة في حِجرها. قالت لهم الصبية: «أنا سعودية، وأسامة بن لادن أبي».

وكانت الصبية (12 عاما) نفسها جريحة في قدمها أو كاحلها بفعل شظية أصابتها خلال المعركة التي دارت في المجمع السكني ببلدة أبوت اباد قرب العاصمة إسلام اباد بشمال باكستان. لكنها، رغم ألمها وحداثة سنّها، آثرت أن تمنح شيئا من الراحة والطمأنينة لوالدتها الجريحة برصاصة في ساقها، أمل الصداح، زوجة بن لادن الخامسة وأصغرهن.

ويتضح الكثير في صورة تضافرت جهود صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية ووكالة «اسوشييتد برس» الأميركية و«غارديان» البريطانية لرسم معالمها. فنُقل عن مسؤولي الأمن الباكستانيين قولهم إن الغرفة نفسها كانت تضم امرأة أخرى يعتقد أنها يمنية وطبيبة الأسرة الخاصة. بدت في حوالي الثلاثين من العمر وكانت يداخا مقيدتان خلف ظهرها وفمها مكمم.

معركة من جانب واحد

تخرج هذه التفاصيل وغيرها الى العلن للمرة الأولى الآن، بعد معركة يبدو أنها كانت أقرب الى كونها من جانب واحد مما وصفه المسؤولون الأميركيون الذين تحدثوا عم «معركة ضارية طويلة» بين طرفين مسلحين.

فقد اتضح ان هذه «المعركة الضارية» التي أتى ذكرها على لسان مسؤول بالبيت الأبيض لم تتعد – من جانب بن لادن – إطلاق النار من واحد فقط من حراسه ورد عليه رجال قوات البحرية الأميركية الخاصة بوابل من الرصاص وأردوه قتيلا على الفور.

وبعد مقتل هذا الحارس كان طريقهم الى بن لادن نفسه بدون عائق.

وأظهرت صور فوتوغرافية التقطها رجال الأمن الباكستانيون في مسرح الواقعة جثث ثلاثة رجال تلطخت بدمائهم على الأرضية، اثنان منهم بالسروال – قميص الباكستاني التقليدي والثالث بقميص «تي شيرت». وكانت إحدى هذه الجثث منكفئة على مسدس ماء من لُعب الأطفال باللون الأخضر الفاقع. ووفقا لمسؤولي قوات الأمن الباكستانية فقد ترك المهاجمون وراءهم أربعة قتلى – إضافة الى بن لادن نفسه – وبعض نساء وأطفال جرحى وبعض الناجين مقيدين بأربطة البلاستيك.

أوباما استبعد الخطة الأولى

كان الرئيس اوباما قد استبعد خطة أولى قالت باستخدام صواريخ كروز بعدما اتضح للاستخبارات الأميركية أن بن لادن يختبئ في المجمع الواقع على بعد حوالي 55 كيلومترا من إسلام أباد ويحميه سور تتراوح ارتفاعاته بين 12 و18 قدما. وفضل بدلا عن ذلك هجوما مباشرا من قوات البحرية الخاصة في افغانستان.

المروحيات التي أقلت الفريق المهاجم كانت توظف، الى أقصى حد ممكن، تكنولوجيا «ستيلث» التي تخفيها عن الرادار وهي تطير فوق مزارع وادي الأوراش عبر المجال الجوي الباكستاني، وساعدها على ذلك أن الليلة نفسها كانت داكنة بدون قمر. وكان على متنها فريق القوات البحيرة الخاصة الرقم 6، الذي أوكل اليه الرئيس باراك اوباما مهمة مواجهة الرجل المعتبر في الغرب أسوأ إرهابي في التاريخ الحديث.

من كان يسكن أين؟

تعود ملكية المجمع الى أخوين باكستانيْن أحدهما يدعى أحمد الكويتي الذي كان رسول بن لادن الأكثر قربا اليه. وكان بعض المعتقلين (بغوانتنامو) قد كشفوا هويته للاستخبارات الأميركية قبل أربع سنوات قائلين إنه أيضا في الدائرة اللصيقة بمواطنه خالد شيخ محمد الذي يُعتقد أنه كان العقل المدبّر لهجمات 9/11 .

ورغم ملكيته للمجمع فقد كان الكويتي وأسرته يعيشان في دار الضيافة التي يفصلها عن دار بن لادن (الرئيسية) سور عال. أما شقيقه، المالك الآخر للمجمع، فقد كان يعيش مع أسرته أيضا في الطابق الأول من الدار الرئيسية.

ويُعتقد أن بن لادن وزوجته أمل وبعض أبنائه كانوا يعيشون في الطابقين الثاني والثالث خلف نوافذ ذات زجاج معتم. وفي لحظة الهجوم الأميركي كان المجمع يضم ثمانية أو تسعة أطفال بين الثانية والثانية عشرة وثلاث نساء وخمسة رجال بمن فيهم بن لادن نفسه.

تفاصيل الهجوم

قسّم قادة الوحدة الأميركية المغيرة جنودهم الى فريقين في مروحيتين على الأقل. لكن إحداهما تحطّمت لحطة هبوطها، ومع ذلك فقد تمكن الكوماندوز من الخروج منها بسلام. وهاجم الفويق الأول دار الضيافة وكان هو الذي قاوم. فقد اتضح الآن أن النار التي أطلقت من هذه الدار كانت هي الوحيدة التي أتت ردا على الهجوم.

وتبعا لأقوال نُسبت الى مسؤول أميركي فلدى علم محمد الكويتي بما يدور، فتح النار على المهاجمين الذين ردوا عليه وأردوه وزوجته قتيلين. ووفقا لصحيفة «نيويورك تايمز» ووكالة «أسوشييتد برس» كانت تلك هي المقاومة الوحيدة التي واجهت الوحدة الأميركية طوال عمليتها.

أما الفريق الثاني فقد اقتحم الدار الرئيسية متنقلا من غرفة الى أخرى. وهمَّ شقيق محمد الكويتي بتجهيز مدفعه الرشاش لكن الوقت لم يسعفه إذ أرداه المهاجمون قتيلا. وفي طريقهم الى الطابق الثاني، حيث كان بن لادن، قتل هؤلاء رحلا يافعا صار رابع القتلى وهو يندفع نحوهم، ويُعتقد أنه حمزة، نجل بن لادن البالغ، لأن الصور الفوتوغرافية أظهرت شبهه بزعيم القاعدة.

منظر مذبحة..

ما أن اقتحم الفريق المهاجم شقة الطابق الثالث حتى «أحالوا المكان الى منظر مذبحة» على حد قول «غارديان». فقد أصيبت ابنة لادن في قدمها أو كاحلها بفعل شظية حادة. ووفقا لرجال الأمن الباكستانيين فإن هذا يشير الى أن المهاجمين فجّروا قنبلة يدوية قبل اقتحامهم الغرفة الرئيسية.

وقالت تقارير أخرى إن الكوماندوز ربما أطلوا رصاصهم عبر الباب قبل كسره. ولكن في كل الأحوال، فالثابت أنهم استخدموا قدرا كبيرا من العنف في هذا الطابق. وما أن اقتحموا الغرفة حتى تصدت لهم زوجة بن لادن، أمل، فأصابوها بعيار ناري في ساقها.

.. وأخيرا بن لادن نفسه

أخيرا صار المهاجمون وجها لوجه مع بن لادن الذي أقر البيت الأبيض بأنه كان أعزل، بعدما قال في البدء إنه كان مسلحا بمدفع «ايه كيه – 47» الذي كان يظهر معه في معظم صوره الدعائية. ويذكر أن بن لادن زعم أنه استولى منفردا على هذا المدفع من جنرال روسي في 1987 خلال الجهاد ضد الغزو سوفياتي لأفغانستان. ويذكر أيضا أنه له أيضا مسدسا من طراز «مكاروف».

ليون بانيتا، مدير «سي آي ايه»، الذي كان يتابع وقائع العملية حية في واشنطن، قال يوم الثلاثاء الماضي في معرض تبيريره إطلاق النار على شخص أعزل، إن بن لادن «تحرك بشكل عدائي وينذر بالخطر إزاء رجالنا، وهذا هو السبب في أنهم فتحوا نيرانهم عليه».

بالطبع فمن غير المعروف ما فعله زعيم القاعدة. لكن المعروف أنه أصيب في رأسه وصدره. وثمة تقارير غير مؤكدة تقول إنه أصيب برصاصة اخترقت عينه اليسرى. ومن المرجح أن المهاجمين استخدموا هنا ذخيرة بطيئة الانطلاق نسبيا فلا تخترق الجسد لكنها تسبب جراحا كبيرة وغائرة.

وقد وصف مسؤول بالبيت الأبيض صور بن لادن الفوتوغرافية بعد مقتله بأنها «مروّعة» وقال إنها لن تنشر. وقال إن هذا القرار اتخذ «خوفا من إثارة أعمال العنف او استخدامها لأغراض دعائية». لكن الرئيس اوباما نفسه لخّص المسألة عندما قال في لقاء تلفزيوني يوم الخميس: «حقيقة الأمر هي أنك لن ترى بن لادن يسير على هذه الأرض بعد الآن».

ما بعد إنجاز المهمة

مع نهاية العملية أخذ المهاجمون الناجين الى موقع آمن في المجمع فلا يصيبهم ضرر لأن النيّة كانت هي تفجير المروحية المحطمة (كي لا تبوح بأسرارها التكنولوجية). وبعذ هذا أخذوا جثتيْ بن لادن وابنه وطاروا بهما تحت جنح الظلام الى أفغانستان.

ومع وصول أول مسؤول باكستاني الى المجمع، كان الأميركيون قد غابوا عن البصر. ووجد الباكستانيون أربع جثث وامرأة مقيدة ومكممة «في حالة هيستيريا» إضافة الى الجرحي رغم أن إصاباتهم لم تكن خطيرة.

وكانت الشرطة الباكستانية أول من وصل الى المجمع، وتبعتها عناصر من الجيش، وأخيرا عملاء وكالة الاستخبارات الباكستانية «إس آي إس». وكانت هناك مشكلة «تخاطب وفهم» إذ لم كيكن بين المسؤولين الباكستانيين من يتحدث العربية مع الناجين في المجمع

بعد العودة لأفغانستان

بعد إكمال المهمة وعودة القوات الأميركية الخاصة الى أفغانستان أجريت مقارنة بين جثة بن لادن وصوره الفوتوغرافية فقرر عملاء «سي آي ايه» إن احتمال أن تكون لزعيم القاعدة يبلغ 95 في المائة. وقال مسؤولو البيت الأبيض لاحقا إن فحوصات الحمض النووي DNA بالمقارنة مع أقاربه تثبت أنها جثته 100 في المائة تقريبا.

وبحلول الساعة الحادية عشرة صباح الاثنين، كان جثمان بن لادن قد لف بملاءة بيضاء وأدخل في حقيبة باللون نفسه. ثم وضع على لوح مائل على متن السفينة الأميركية «يو إس إس كارل فينسون» وتُرك لينزلق الى مثواه الأخير في أعماق مياه بحر العرب.

استقلال

وفقا لرجال الأمن الباكستانيين فقد كان لكل من غرف مجمع بن لادن حمّام ملاصق كما هو المألوف في الدور الباكستانية. لكن غير المألوف هو أن لكل غرفة مطبخا ملتصقا وخاصا بها، وهذا يدل على أن الغرض هو ان يتمكن الشخص صاحب الغرفة من العيش مستقلا تماما عن الباقين.

وتظهر صورة فوتوغرافية التقطت لغرفة في الطابق الثاني كرسيا أزيحت قعدته، وهو ما يشير على الأرجح الى أنه كان لاستخدام شخص مريض أو مسن فيمكنه من قضاء حاجته بشيء من السهولة. ويعتقد المسولون الباكستانيون أنه كان يخص بن لادن الذي شاع أنه ظل يعاني من متاعب الكليتين لسنوات طويلة.

وقد جُهزت غرفة بالطابق الأول لتكون فصلا دراسيا إذ حوت سبورة بيضاء وأوراقا كُتب عليها بالعربية إضافة الى عدد من كتب الأطفال. ويبدو أن هذا الأمر كان ضروريا لأن الجيران يقولون إن أطفال المجمع لم يلتحقوا بأي مدرسة عامة.

وكانت الأطعمة التي عثر عليها تشير الى حياة بسيطة إذ كانت مؤلفة رئيسيا من البلح والتمر واللحم المجفف والبيض وزيت الزيتون والجوز.

لوازم أساسية

بسبب المخاوف من احتمال تنبّه القوات الباكستانية للتحرك الأميركي وتصديها للمروحيات بمقاتلاتها النفاثة، كان يستلزم للقوات الأميركية الخاصة التحرك بسرعة عالية. ومن جهة أخرى فقد سبق هذا تجميع لما وصفه محللون بأنه «كنز» من المعلومات الاستخبارية على أقراص أجهزة الكبيوتر والـ«سي دي» والـ«دي في دي» والورق.

على أن الأمر لم ينته هنا لأن خبراء الاستخبارات الأميركيين يعكفون حاليا على دراسة «أطنان من المعلومات»، على حد وصف أحدهم، من مختلف أوعية التخزين الإلكتروني. ويهدف هذا لاستباق الصورة المستقبلية لنوع الهجمات التي يمكن ان تخطط لها القاعدة، وهيكلية التنظيم نفسه وتركيبته، وقياداته المحتملة، وكيفية التصدي له بعد إزاحة بن لادن.

السابق
العولقي ينجو من هجوم شنته طائرة أميركيّة بدون طيار في الي
التالي
اجتماع تنسيقي في صور استكمالا لازالة مخالفات البناء