الفلسطينيون وفواتير الخفة والانقسام ·· والرهانات العبثية!

لم يستطع كل الزعيق الذي أطلقته القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية لتبرير العدوان الوحشي الدموي على قطاع غزة، والذي أودى بحياة العشرات من أبناء المدن والقرى والمخيمات، حجب الأهداف الحقيقية المتوارية خلف هذه الجرائم المستدامة التي تنمو على حوافها رزم إضافية من الحجج والذرائع، من نمط استهداف الصواريخ التي تطلقها حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى أطفال إسرائيل، واستحواذ الحركة الإسلامية، التي سبق وأن أطلقت عشرات الصواريخ قبل أسابيع على أطراف بعض المستوطنات الإسرائيلية، على صواريخ يبلغ مداها سبعين كيلومترا، ومئات الصواريخ الأخرى المضادة للدروع، بما في ذلك صواريخ كورنيت الموجهة، وسوى ذلك من الترهات والمزاعم المشفوعة بمحاولات تصوير إسرائيل كدولة تتعرض للعدوان والإرهاب، والتي وصلت إلى حد مطالبة العجوز المخضرم رئيس الدولة العبرية شمعون بيريس مجلس الأمن الدولي بفرض وقف الهجمات الفلسطينية التي أدت إلى جرح شخصين إسرائيليين فقط، وذلك على رغم محاولات حماس المستميتة لاحتواء الموقف، وإعلانها الواضح والصريح أنها ستعتمد الطرق السياسية لوقف التصعيد في غزة·

العناوين الأكثر بروزا في قائمة هذه الأهداف الإسرائيلية الماثلة التي تتوّج محاولات استغلال الحال الإقليمية الملتهبة، وإبقاء قطاع غزة تحت السيطرة العسكرية والأمنية وضبط سلوك وممارسات القوى المتحكمة هناك، وتصعيد أعمال الاستيطان في القدس ومختلف أنحاء الضفة الغربية، وتشريع سلسلة من القوانين العنصرية الهادفة إلى التضييق على فلسطينيي 48 وصولاً إلى ترحيلهم وطردهم، تتمثل في المسائل الثلاث التالية: خلط الأوراق عشية اجتماع الرباعية الدولية، ودفع هذه اللجنة إلى عدم التعاطي مع المطالب الفلسطينية بالجدية المأمولة، وزرع عقبات إضافية في طريق المصالحة الوطنية التي وضعها رئيس السلطة محمود عباس على نار حامية بعد طرح مبادرته المتعلقة بزيارة غزة، وتوفير غطاء عربي وإقليمي، ولا سيما مصري، لهذه المصالحة المنشودة التي يمكن أن تترك آثارا إيجابية على رياح التغيير في المنطقة، وفق ما يرى وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو· وأخيرا، ابتزاز الفلسطينيين وتخويفهم من نتائج وتداعيات مسعاهم المتعلق بما يسمى استحقاقات أيلول/ سبتمبر المقبل، وبالأخص حيال مسألة توجه منظمة التحرير إلى الأمم المتحدة لانتزاع اعتراف دولي بدولة فلسطينية على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 خلال الدورة المقبلة للجمعية العامة·

ومع أن أحدا لم يأخذ على محمل الجد إمكان خروج اجتماع الرباعية بقرارات وتوصيات تتناغم ومطالب منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، ولا سيما تلك المتعلقة بالتوجه إلى الأمم المتحدة، بدليل الصمت الدولي المتواطئ مع العدوان الإسرائيلي الدموي على قطاع غزة، والقبول بأكاذيب وذرائع إسرائيل، وعدم الاعتراض الفعَال على نهب ومصادرة الأراضي الفلسطينية وتوسيع عمليات الاستيطان، والتي كان آخر فصولها المعلنة إقرار إقامة 942 وحدة استيطانية في حي غيلو الاستيطاني في القدس، ومصادقة بلدية الاحتلال في المدينة المقدسة على إنشاء حديقة وطنية تهدف لمنع التواصل الجغرافي بين حيي الطور والعيسوية، وتوافق رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو ووزير الحرب ايهود باراك على إقامة أربع مستوطنات في الضفة الغربية هي نوفيم وأشكولوت جنوب الخليل، وحميدات وروتيم في غور الأردن، وكذلك بدلالة إعلان المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل أن بلادها لن تعترف بشكل أحادي بدولة فلسطينية، إلا أن ثمة نجاحا إسرائيليا يمكن تلمسه حيال العنوانين الآخرين اللذين تتقاطع في سياقهما مواقف فلسطينية ودولية، يرى بعضها في المصالحة الفلسطينية خسارة ذاتية لا يمكن تحمَل نتائجها وتداعياتها الداخلية التي ربما تعيد جوجلة موازين القوى على الصعيد الفلسطيني، فيما يرى بعض آخر في المصالحة والاعتراف الدولي بدولة فلسطينية تغيرا استراتيجيا بصعب رصد تأثيراته على مستقبل القضية الفلسطينية، وصورة الواقع الإقليمي المنطلق نحو آفاق جديدة غير مسبوقة في تاريخ المنطقة·

يمكن، بطبيعة الحال، إعادة التأكيد، في عنوان المصالحة الفلسطينية، على أن إسرائيل ليست بحاجة إلى ذرائع أم مبررات للعدوان على الفلسطينيين، وأنها غير معنية بالتزام كافة أنواع التهدئة، إلا أن ذلك لا يبرر التعاطي بخفة أو سوء تقدير يفضي إلى ارتكاب مذابح إسرائيلية جماعية بحق أبناء القطاع، ولا يمنح صكوك غفران لحركة حماس التي تهرب من درب هذه المصالحة إلى ساحات الدمار والموت في غزة، بعد أن تهاوى خطابها المطالب بالعودة إلى طاولة الحوار، بما في ذلك دعوتها إلى عقد لقاء بين عباس ومشعل في أي مكان خارج فلسطين، بعد فشل 1400 ساعة من هذا الحوار، خلال السنوات الثلاث الماضية، في الوصول إلى نتائج جدية، تحت ظلال التأييد العارم لهذه المبادرة، فلسطينيا وعربيا وإسلاميا ودوليا، وإبداء عباس استعداده تحمل التبعات الأمنية لزيارة غزة، واستعداده كذلك لقاء قادة حماس في الضفة الغربية للاتفاق على عنواني المبادرة: إعادة إعمار ما هدمه عدوان الرصاص المصهور عام 2008، وتشكيل حكومة مستقلين مهمتها التحضير لانتخابات رئاسية وتشريعية، إضافة إلى انتخابات المجلس الوطني·

أما بالنسبة للعنوان الثاني المتصل باستحقاق أيلول/ سبتمبر المقبل، والمستند، نظريا، على أن هذا الشهر هو موسم المواعيد التالية: انتهاء الخطة الفلسطينية لما سمي بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية، وانتهاء مهلة مفاوضات السلام التي حددتها اللجنة الرباعية بعام واحد في 2010، وتعهد الرئيس الأميركي باراك أوباما بحصول فلسطين على عضوية كاملة في الأمم المتحدة خلال دورة 2011 في أيلول/ سبتمبر المقبل، فيبدو أن ثمة خشية إسرائيلية من الحراك الفلسطيني بهذا الاتجاه، انعكست بوضوح في البرقية التي بعث بها مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية رفائيل باراك إلى أكثر من 30 سفارة إسرائيلية والمتضمنة تعليمات بتقديم احتجاج دبلوماسي على أعلى مستوى ممكن ضد هذا المسعى، كما انعكست في التهديد باتخاذ خطوات أحادية الجانب، من نمط فرض القانون الإسرائيلي على الضفة الغربية، أو ضم الكتل الاستيطانية الكبرى للدولة العبرية، وفق تسريبات الصحف الإسرائيلية· ومرد ذلك، حسب بعض السفراء الإسرائيليين، هو أن الفلسطينيين سيبادرون، في حال اعترفت الأمم المتحدة بدولتهم، إلى الشروع في مفاوضات على أساس هذا الاعتراف، ما يضع قيودا ثقيلة على إسرائيل وسياساتها·

على أن هذا لا يمنع وجود إشكالية جدية من شقَين: الأول، مراهنة القيادة الفلسطينية على تأييد الولايات المتحدة التي صرحت وزيرة خارجيتها هيلاري كلينتون، أكثر من مرة، أن إدارتها لا تؤيد أية خطوات أحادية الجانب من أي من الطرفين، على رغم أن كل ما أقدمت عليه إسرائيل من إجراءات وقرارات، منذ احتلالها الضفة الغربية والقدس الشرقية، كانت خطوات أحادية الجانب· والثاني، تلميح وتصريح بعض أركان السلطة ومنظمة التحرير بأن الخطوات التي يمكن اتخاذها في حال فشل المساعي الهادفة إلى تأمين اعتراف دولي بالدولة الفلسطينية، ربما تتضمن تخلي السلطة عن التزاماتها وفق الاتفاقيات الموقعة، والتي ما زالت تنفذ من قبل الطرف الفلسطيني فقط، دون الوصول إلى حد التخلي عن السلطة، بذريعة أن هذه السلطة تشكل نواة الدولة الفلسطينية، ما يعني عمليا مواصلة التمسك باتفاق أوسلو الذي أنجب هذه السلطة، وتجاهل الحديث عن الدولة الفلسطينية· أي بكلام آخر، مواصلة المراهنة على ذات السياسة العبثية التي أوصلت الحال الفلسطينية إلى تخوم الكارثة·

السابق
هل يوفد لبنان مسؤولاً كبيراً إلى البحرين لمعالجة الموقف؟
التالي
أزمة التأليف “معلّقة بحبال” التفاهم السوري – السعودي