“بيكفي إنّك لبناني لتشعر بالذلّ”

استفاق مهدي زرقط باكراً من نومه يوم أمس. كوابيس كثيرة كانت كفيلة بأن تؤرقه طوال ليلته الأولى في لبنان، بعد وصوله مساء أول من أمس إلى وطنه، عائداً من جحيم أبيدجان. في منزل عائلة زوجته في صور سبب واحد للفرح، هو عودته سالماً. في عيني مَن يزور مهدي لتهنئته بالسلامة، أسئلة كثيرة عن أحوال آلاف اللبنانيين من منطقة صور، الذين يتخبطون وحدهم في الحصار المفروض عليهم.

انتهت رحلة الألف ميل لزرقط في صور. لا يدقّق الرجل في المسافة التي قطعها من أبيدجان إلى هنا، بل في الإنهاك البادي على جسده بعد جولة حول القارات بدأها يوم الأحد الماضي. هو أحد اللبنانيَّين الاثنين اللذين عادا بعدما شملتهما عملية إجلاء فرنسية من أبيدجان. مهدي كان ممن أجلتهم المروحية الفرنسية عن سطح المبنى الذي يملكه صهره نبيل زرقط، مساء الخميس الماضي. علق هؤلاء في المبنى الواقع في المنطقة الرابعة إثر هجوم المسلحين على المبنى. تجمعوا على السطح بانتظار إغاثتهم وسط إلقاء قنابل مسيلة للدموع عليهم. عن تلك اللحظات، يشير مهدي إلى أن اللبنانيين من سكان المبنى المؤلف من اثنتي عشرة شقة سكنية التحفوا السماء، إلى أن تستجيب السفارة اللبنانية لنداءاتهم. يقول إن السفير اللبناني علي عجمي حوّله إلى ضابط في الوحدة الأردنية التابعة للأمم المتحدة لكي تقدم لهم الدعم. أربع ساعات أمضاها المحاصرون بانتظار اللبنانيين والأردنيين، إلى أن استعان أحدهم بالجيش الفرنسي الذي أنقذهم في خلال عشر دقائق. المروحية العسكرية حطت أربع مرات على سطح المبنى وأقلت العائلات إلى القاعدة الفرنسية القريبة من المطار.

هناك، كان قد لجأ نحو ألفي لبناني إلى جانب مواطنين من جنسيات أخرى. كان الطعام والشراب والحاجيات متوافرة جزئياً، إلا أن الأدوية، ولا سيما الخاصة بالأطفال، كانت قد بدأت تنفد. والسبب يعود إلى الضغط الكبير الذي تعرض له المخيم الفرنسي الذي فاق عدد اللاجئين قدرته على الاستيعاب. لذلك، اقترح الجيش الفرنسي على اللاجئين نقلهم بمروحياته العسكرية من أبيدجان إلى مطارَي أكرا ولومي، عاصمتي غانا وتوغو، وإلى السنغال. العرض المغري لم يناسب معظم اللبنانيين؛ لأنه كان عليهم تدبر أنفسهم بمفردهم هناك، ما يعني أن انتقالهم إلى بيروت سيكون على نفقتهم الخاصة. ولأن معظمهم خرج من دياره خالي اليدين، من مال وأوراق ثبوتية، خسر هؤلاء الفرصة الثمينة، إلا ثلاثين منهم، كان مهدي من بينهم، بما أن جواز سفره كان بحوزته، إضافة إلى مبلغ ألف وخمسمئة دولار. استقل المروحية إلى توغو، ومنها إلى باريس، وبعدها إلى بيروت.
رحلة مهدي كانت تتزامن مع دعوات الحكومة اللبنانية لرعاياها بالوصول إلى توغو وغانا خصوصاً، حيث ستستقبلهم وتنقلهم إلى لبنان على نفقتها الخاصة. من هنا، ناشد مهدي الحكومة الكف عن الكذب والمزايدة، عبر إيفاد لجان إلى هاتين الدولتين لمساعدة اللبنانيين لناحية نقلهم مجاناً وتسوية إجراءات انتقالهم، لأنهم لا يملكون جوازات سفرهم.

تجدر الإشارة إلى أن القنصل اللبناني في غانا كان قد انتقل أمس إلى توغو التي ليس فيها سفارة ولا ممثلية لبنانية، وذلك بهدف استقبال اللبنانيين على أرض المطار. إلا أن الأنباء أشارت إلى أن من تمكن من الوصول إلى مطار لومي، لم يجد من يدعمه مادياً، بل من يساومه على ذلك عبر إقراضه ثمن التذكرة التي عليه أن يعيد ثمنها إليه فور وصوله إلى لبنان. ومن المنتظر أن تصل إلى بيروت صباح اليوم طائرة تابعة لشركة طيران الشرق الأوسط تقل لبنانيين من غانا، آتين من أبيدجان على نفقة الحكومة اللبنانية، بحسب الوعود التي أُشيعت أمس.

لكن فور عودة هؤلاء، سيُركنون على رف انتظار المجهول. فالساعات القليلة التي أمضاها مهدي منذ عودته إلى مسقط رأسه، كانت كفيلة لتحمله على المناشدة: «ردني إلى بلادي في الكوت دي فوار».
ويشير هنا إلى أن الجالية اللبنانية طالبت منذ بداية الأزمة الأفريقية بخفض ثمن تذاكر السفر على رحلات الـ«ميدل إيست»، لمَن لا يستطيع دفع ثمنها الأصلي الذي لا يقل عن ألف دولار. لكن الطلب لم يؤخذ على محمل الجد، وسط احتدام الأزمة من جهة، وتدهور الأحوال الاقتصادية من جهة أخرى.

يختنق مهدي مرات عدة لدى استعادته الأيام الأخيرة التي سبقت عودته وتمكنه من النجاة. لكن الدمعة تغلبه فوراً لدى تكهنه بالأيام المقبلة بالنسبة إلى اللبنانيين، حتى عودة الأمور إلى طبيعتها.
أصلاً، حتى حين تعود الحياة إلى طبيعتها في ساحل العاج، سيكون على مهدي وأمثاله، أن يؤسسوا أعمالاً جديدة، بعدما لم يبق لديهم شيء هناك. أخيراً، يصرّ مهدي على أنّ أكثر ما يؤلمه هو مصطلح الذل الذي أقحم في قاموسه: «بيكفي إنك لبناني، لتشعر بالذل».

السابق
إضراب موظفي مستشفى حاصبيا في يومه الثاني
التالي
مشروع تأهيل طريق طيردبا بين بلديات صور والكتيبة الكوري