ما بين دمشق و”المستقبل”: خيط سعودي رفيع

فرضت التطورات الأمنية المتسارعة في سوريا قراءة لبنانية سريعة ومتأنية لما يجري هناك، وعما إذا كانت الاتهامات التي وجِّهت الى جهات لبنانية، وتحديدا الى اطراف من قوى 14 آذار و”تيار المستقبل” على وجه الخصوص، بالتورط في تنظيم التظاهرات في سوريا والحضّ على استخدام السلاح، والتي سارع اليها او تبرّع بها بعض الأطراف اللبنانيين من انصار النظام في سوريا وأصدقائها وبعض المتظاهرين السوريين، قبل ان يقول النظام السوري قوله النهائي في نتائج ما سمّي تحقيقا فُتح بأوامر رئاسية لتقصّي الحقائق بشأن مَن خطّط او حرّض او نظّم التحركات الشعبية في درعا وبعدها في اللاذقية، وتحديد الأسباب التي دفعت اليها، كما بالنسبة الى المسؤولين عما حصل عن إهمال او سوء إدارة.

لا يختلف اثنان من العرب او الأوروبيين في تسخيف القول إن ما حصل في سوريا، كما قبلها في مصر وتونس وليبيا، كان ثمرة التكنولوجيا والفايسبوك، وإن ثورة تقرر القيام بها عبر الصفحات الاجتماعية وتويتر وغيرها من وسائل الاتصال المتطورة هي التي اقصت رؤساء وغيرت انظمة وانهت عقودا من انظمة الطوارىء.

وفي رؤيتها الى الجهات التي تقف وراء ما حصل، يعترف هؤلاء جميعا بأن لكل دولة من الدول العربية والمنطقة لها خصوصياتها، فيها مكامن القوة والضعف مفضوحة وليس فيها اي من اسرار الجاسوسية. ولذلك، فإن ما شهدته مصر، وإن فاجأ أجهزة الاستخبارات العربية والدولية، فإنّ ما جرى في تونس كان واضحا جرّاء الاحتقان الطويل الأمد، فكان من الأسباب التي قادت الى الثورة بعدما أحرق البوعزيزي نفسه امام وسائل الإعلام. وفي اليمن أزمة قبائلية قائمة منذ سنوات، وفي البحرين صراع مذهبي مفضوح.

اما في سوريا فالأمر مختلف تماما عن كل ما سبقها. ففيها محطات من العنف قادت الى مجازر وعمليات ابادة في فترات قياسية من الحكم شهدتها على رغم الاستقرار السياسي الذي ارساه نظام البعث منذ 7 آذار 1970. لكنّ هذا الاستقرار لم يكن امنيا مستداما، وقد شهدت بعض المدن، وفي فترات متفاوتة، مواجهات وازمات عنيفة اودت بحياة الآلاف من المواطنين السوريين موالين ومعارضين، وهدمت مدنا وقرى ومساجد وكنائس.

وفي سوريا اليوم اكثر من 17 جمعية وحزبا محظورا ومناوئا شرسا يعمل بعضها القليل جدا جدا في السر داخل الأراضي السورية، اما اكثريتها فتعمل في العلن من عواصم عربية واوروبية واميركية، ولها قياداتها المعروفة في كثير من الأوساط الدولية، وتلك التي تقود حملات باسم الديموقراطية وحقوق الإنسان ولها من يدعمها في كثير من دوائر القرار في دول كبرى.

ولذلك تعترف الجهات المعنية بأنّ توجيه التهم الى افراد وأحزاب لبنانية ليس فيها ما يقنع احدا من غير الباحثين عن ادوار لهم في زواريب بيروت ودمشق وما بينهما تحت شعارات محلية معروفة المقاصد والأهداف.

ومن دون التوسع كثيرا في حجم الاتهامات وما حوته من وقائع يمكن ملاحقتها للتثبت منها، فإن الوقوف على اتهامات وجهت الى قوى 14 آذار وتيار “المستقبل” بتورّطها في احداث سوريا من الأولويات التي يمكن البحث فيها والتمعّن في جديتها ومصداقيتها.

لذلك يقول العارفون إن مثل هذه الاتهامات، ليس فيها ما يمكن الانقياد اليه بشغف الباحث عن معلومات. فتحت شعار أن أمن سوريا من أمن لبنان والعكس صحيح، يمكن التوغل قليلا في التحليل والإضاءة على بعض المعلومات المتوافرة لدى مراكز القرار في سوريا ولبنان، والتي بنى بعض اللبنانيين عليها نظرية ان لبنان هو الخاسر دائما وعلى مر التاريخ المعاصر من اية مواجهة لبنانية – سورية اقتصاديا وامنيا وسياسيا…

وفي هذا الإطار، بدا لكثيرين ان هذه النظرية حكمت الاستقرار الذي نعم به لبنان في فترات متقطعة منذ اتفاق الطائف العام 1989 الى العام 2004 بأدوات امنية سورية كبيرة ولبنانية نمت في ظلها ورعايتها الدائمة امنيا وسياسيا وعسكريا. وعليه بنيت عهود وحكومات ومواقف بلغت حدودا لم تكن تخرق من الجانب اللبناني بقدر ما خرقت من الجانب السوري، فكانت موجة الاغتيالات التي شهدتها البلاد منذ اواخر العام 2004 الى العامين 2007 و2008 وأدّت الى ما أدت اليه من مواسم عدم الاستقرار والتوتر.

لكنّ ذلك لم يمنع من بروز قناعة لبنانية واسعة قالت بحسن الجوار مع سوريا والتعاطي بين الدولتين بمنطق من “دولة الى دولة”، من دون ان يكون هناك من يضمن سلامة تطبيق هذه النظرية وتثبيتها على قواعد ثابتة الى اليوم. وعليه بات البحث عن شكل العلاقة بين الدوليتن رهينة الوساطات العربية والغربية من المبادرات التي انتجت الطائف ووثيقة الدوحة… وصولا الى التركية – القطرية المشتركة في رعاية فرنسية واوروبية وبعلم الولايات المتحدة الأميركية طبعاوموافقتها الضمنية.

ومن هذه الوساطات والقواعد التي ارستها، يمكن مقاربة الموضوع، من ابرزها، وهي مبادرة السين – السين التي رعت الفترة الأخيرة من العلاقات بين البلدين، والتي انتجت زيارات اولية قادها الرئيس السنيورة اولا، الى تلك التي رافقت تسلم الرئيس الحريري رئاسة الحكومة ونزوله مكرما في قصر الشعب، الى سلسلة أخرى توجت بالقمة الثلاثية اللبنانية – السعودية – السورية في 30 آب من العام الماضي في قصر بعبدا، والتي اعتبرت المحطة التي اقفلت النوافذ والمعابر كلها الى الفتنة السنية – الشيعية في لبنان، التي كانت متوقعة على هامش القرار الظني للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان، وكأنها أحد مفاعيله الحتمية.

وعلى رغم النكسات التي اصابت هذه المبادرة التي انتهت قبل اكتمال نموها، وصولا الى نعيها رسميا من جانب لبناني واحد في 14 شباط الماضي لم يسجل اي خرق لبناني لها. بل على العكس، هناك من يؤكد انها باقية في توجهات اطرافها وعناوين سياساتهم واستراتيجياتها الكبرى. ويمكن التثبت من هذا الأمر عبر توجهات قوى 14 آذار على الساحة اللبنانية من جهة، وسوريا من جهة أخرى، وهي التي نأت بنفسها علنا في تجنّب ما يثبت تورطها في الملف اللبناني. وكان الدليل الأبرز في السعي بالوسائل الممكنة كلها إلى تلبيس “الانقلاب في 25 كانون الثاني” الماضي لبوس اللعبة الديمقراطية والدستورية، عندما تم توليد الأكثرية الجديدة، واختير الرئيس نجيب ميقاتي لتشكيل الحكومة.

ويعترف كثر بأن وراء كل ما حصل كان هناك قوى عربية كبرى حرصت منذ اللحظة الأولى على تجنب الفتنة المذهبية علنا، لكن ما قصدته في السر ايضا ان لا تقطع شعرة معاوية بين تيار “المستقبل” بالدرجة الأولى وسوريا، والتي بقيت رهينة “خيط سعودي رفيع” انتج العديد من المواقف السياسية لهذه القوى.

ويضيف هؤلاء بالقول: ما معنى ان تعبر الذكرى السادسة لاغتيال الرئيس الحريري ورفاقه في 14 شباط الماضي من دون أن توجّه “التهمة السياسية” مرة أخرى ضد سوريا؟

وما الذي يفسر ان تختار “اللاءات كلها” في 13 آذار، بدلا من الاتهامات الكبرى التي حمّلت سوريا الجرائم التي ارتكبت واستهدفت وزراء ونوابا وقيادات واعلاميين وسياسيين وحزبيين لبنانيين من لون واحد؟

ويعترف اقطاب 14 آذار، وخصوصا المسيحيون منهم، بأنهم ناقشوا في بداية الأمر طروح تيار “المستقبل” بشأن تحييد السوريين تماما من كل مناسباتهم لهذا العام. قبل ان يتوافقوا على رفع شعار “اللأ لسلاح حزب الله” واي سلاح غير شرعي الأولوية الحصرية وعنوانا لهذه المناسبات فترجم عن قناعة او من عدمها في المواقف والخطب كلها التي لم تأت على ذكر القيادة السورية بتاتا امام مئات الآلاف من اللبنانيين الذين اعادوا اليها بريقها وحضورها الشعبي.

وختاما، يمكن القول ان على هذه الحقائق ومنها، يمكن التطلع الى واقع حال العلاقات اللبنانية السورية، وإلاّ ما معنى ان تستهجن كتلة نواب “المستقبل” في بيانها قبل ايام ما يحصل في سوريا، وتتمنى في اجتياز ما سمته “بالشقيقة سوريا هذه المرحلة سريعا في ظل الأمن والسلام والخير والتقدم” قبل ان تنفي “الادّعاءات بأنّ بعض القوى السياسية في لبنان تشكل مصدرا للسلاح أو التحريض لزعزعة الأمن والاستقرار في سوريا”.

وأكثر من ذلك، تتوقف المراجع المعنية بهذا الملف أمام اهمية الاتصال الذي أجراه الاثنين الماضي العاهل السعودي بالرئيس السوري بشار الأسد ليؤكد له وقوف المملكة الى جانب سوريا ورئيسها في ما تشهده من أحداث دموية. ولذلك يقول احد المطلعين على ظروفه، إن اهم ما في هذا الاتصال ليس ردا سعوديا لجميل سوري بوقوفها الى جانب السعودية في ازمة البحرين، بل ان الاتصال جرى في اثناء وجود الرئيس الحريري في ضيافة الملك عبد الله في الرياض. وفي ذلك اهم الدلائل على ان الخيط السعودي الرفيع ما زال قائما بين تيار “المستقبل” والقيادة السورية، وأن مخاوف بعض أقطاب قوى 14 آذار من سين – سين أخرى تنسج في الخفاء عنهم تزامنا مع التعثر الذي يصيب مهمة الرئيس ميقاتي في تشكيل الحكومة العتيدة، هي امر آخر وللبحث صلة!

السابق
وحدة المصير
التالي
“الحياة”: لبنان: موقوفون يعترفون باشتراكهم في خطف الأستونيين السبعة