إسقاط النظام الطائفي ورموزه… تنوع أو انقسام

هذه المرة في جبيل. المدينة السبّاقة تاريخياً، في إطلاق مبادرات إلى العلمنة، ونبذ الطائفية، كما ردد مشاركون في الحراك من أجل «إسقاط النظام الطائفي». تقلص عدد المشاركين، عما كانه في بيروت، لكن الأصوات ازدادت ارتفاعاً.
العدد ليس كثيراً، وليس مهماً، المهم أن هناك أيادي جديدة حملت شعارات مشابهة للتظاهرات السابقة. إنها الثالثة والربع في ساحة الجيش اللبناني ـ عمشيت. تعسكر الشمس فوق الساحة. ويبدأ الحراك. بدا الحشد هزيلاً في البداية، ثم تحسنت الصورة. وسريعاً، ارتفع صوت طفلة فوق صوت الجميع. هتفت الشقراء الصغيرة ضد الطائفية، واستجاب لها الجميع، بالبراءة نفسها. في منتصف الحشد، ظهرت مجموعة «حلّوا عنّا» من جديد. المفاجأة هذه المرة هي الصناديق. صندوق المهجرين، صندوق مجلس الجنوب، صندوق كازينو لبنان وصندوق الإنماء والإعمار. ارتفعت هذه المجسمات فوق الرؤوس لتركز على دَين الشعب اللبناني للجهات غير المجهولة.

وإلى مفاجآت العلمانيين، هناك كانت بعض الظواهر لافتة في مدينة الحرف. مثلاً، أن يضع أحد رجال الاستخبارات مسدساً حربياً على خصره، ويتجول بين المتظاهرين، أو أن يظهر عدد لا يستهان به من رجال استخبارات الجيش اللبناني، مرتدين ثياباً مدنيّة وسترات تعرّف عنهم. السترات ليست ضرورية، فهناك عرف لبناني كرّسته الأحداث الطائفية، للمناسبة، بأن الرجل بثياب مدنية، وسلاح حربي، هو رجل استخبارات أو أمن.
في موازاة ذلك، لم تختف المشاهد الجميلة. فإلى اللافتات، الخفيفة الظل، التي تهاجم «ديناصورات الطائفية»، وتحث على المواطنة، كان هناك الأم التي أتت بأولادها، والمُقعد الذي لم ينتظر القوانين النائمة في وزارة الشؤون الاجتماعية للاندماج مع المجتمع. في مطلب كهذا يندمج الجميع تلقائياً. الأطفال، الشباب والكبار، الجميع جنباً إلى جنب. اختار المنظمون أن يمشي الأطفال في المقدمة، لأنهم الأمل. ولأن الأحلام تطالهم قبل غيرهم.

لم يكن الأطفال وحدهم في الساحة. كان هناك متفرجون أيضاً. فضوليون في ألطف وصف. هكذا، يمكن الحديث طويلاً عن «رجل السيجار» مثلاً، الذي تنصل من الإجابة عن سؤالٍ لأحد الصحافيين، عن رأيه بالتحرك. اكتفى بالنفي، مستنفراً، «نو نو ما خصني». تخطته الحشود رويداً رويداً. وفي الثالثة والنصف، تعكر صفو العرس الجبيلي قليلاً. فجأة، اقترب بضعة شبان من الزميل وائل اللاذقي. طلبوا منه أن يتخلى عن لافتة يرفعها. لم يكن في اللافتة شعار طائفيّ حتى يُستفزّوا. التظاهرة كما هو معلوم ضد النظام الطائفي ورموزه، وكل شعار لا يمجّد هذه الرموز، أو يفتح لها نافذةً للتسلل إلى الحشد، يجب أن يعدّ مقبولاً، ما دام في إطار الفردية، التي ينشدها معظم المحتجين، بعيداً عن الاصطفافات الطائفية. ذلك لم يحم وائل، الذي كتب على لافتته: «ما بحب الصيد ولا سلاحو». لكن ذلك لم يعجب الشبان الذين ينتمون إلى اتحاد الشباب الديموقراطي، كما لفت اللاذقي نفسه. فاعت الروح النضالية في المعترضين، وانتزعوا اللافتة من اللاذقي بالقوة. وعندما حاول استعادتها، حدث ما حدث. نال الزميل حصته من الكدمات الثورية. وسريعاً، حاول المسؤولون في الاتحاد إصلاح المشهد العنيف، وقال اللاذقي في حديث مع «الأخبار»، إن المسؤولين في الاتحاد أكدوا له أن الحادث فردي، وأنهم يتأسفون مثله لوقوعه. وانتهت المفاعيل، بناءً على رغبة اللاذقي نفسه، بتفادي أي خلافات من هذا النوع، لأن الحراك في الأساس قائم على المطالبة باللاعنف والديموقراطية. الديموقراطية الحقيقية لأن لا شيء اسمه ديموقراطية توافقية طبعاً. الديموقراطية هي الديموقراطية، وقد تهامس بذلك كثيرون من المشاركين، كتعليق على الشائعات التي سبقت التظاهرة، والتي تحدثت عن انقسام.
رغم الشائعات، تابعت التظاهرة طريقها. بات واضحاً أن الحشد اكتمل. صحيح أن العدد لم يتخطّ بضعة آلاف، لكنه فاق هذه المرة أيضاً توقعات الجميع، فالتظاهرة فرعية وليست في العاصمة. وفي الرابعة تقريباً، أصبح المتظاهرون في مواجهة البحر. صاروا على حافة المدينة. لوّحوا لها بشعاراتهم من بعيد. صدحت شعارات ميدان التحرير في جبيل: «الشعب يريد إسقاط النظام». البعض ذهب أبعد من ذلك وهتف مطالباً بحدوث «ثورة».
ومن جبيل، وجّه المشاركون التحية إلى ثوار تونس، مصر، ليبيا، اليمن، البحرين، وسوريا. أرفقوا تحيّاتهم بلازمة ذات طابع استقطابي: «دورك يا لبنان». ويمكن الشاهدَ أن يجزم أن الجبيليين مضيافون، إن لم نقل مرحّبين بشعارات التظاهرة ومؤيدين لها، شكلياً على الأقل. فمن على شرفات منازلهم، كانوا يحيّون التظاهرة، كلما دعتهم مكبرات الصوت إلى النزول والمشاركة في السير إلى ساحة جبيل. إحداهنّ استجابت للدعوات بشجاعة، ونزلت وأكملت التظاهرة. أعجبتها الشعارات. رفعت قبضتها هي أيضاً. نزول هذه السيدة ليس سوى دافع إضافي للمزيد من التحركات. فعندما يصرخ متظاهرون ضد النظام الطائفي، وينضم إليهم أناس عن الشرفات، ذلك يعني أن ثمة من يبحثون عن فسحة قد يوفرها الحراك. وعندما تعرف أن اللاطائفيين لم يتعبوا بعد، لا تحتاج إلى أن تعرف شيئاً آخر. التنظيم ضروري ومحاولات الاختراق موجودة، لكن النيات صامدة. رغم تباين الشعارات، بين لاطائفي وعلماني، ظل المغزى يلامس الوحدة.
يبقى سؤال واحد: ماذا بعد؟ لا شك في أن الجميع باتوا مدعوين الى إغلاق كل الثغر التي تدفع إلى الانقسام، وتالياً، المشاركة في النشاطات المقبلة. جبيل محطة رمزية، عرس جديد. فقد أوضحت تظاهرة أمس، رغم تراجع عدد المشاركين، قليلاً، أن الرموز، جميع الرموز الطائفية، مدعوون للكف عن الحركات العبثية لاختراق التحرك ومصادرته. فهو لن يتوقف. واللافت أن ثمة رجالاً من الجيش رفعوا شعارات النصر لقافلة العلمانيين. ربما يكون الرموز المستهدفين مدعوين إلى خطوات أكثر جرأة: الاعتراف بضرورة العلمنة، والكف عن تصوير أهلها على أنهم مجموعة من «المستغربين». المعطيات توضح أن اللبنانيين الذين تحوّلوا بعد الثورات العربية من طائفيين بحكم الواقع، إلى لاطائفيين سائمين من النظام، قادرون على أن يصبحوا علمانيين، إذا ما أتيح لهم فهم ماذا يعني ذلك فعلاً. علمانيون لبنانيون لا فرنسيون ولا أتراك ولا صوماليون. والسيدة الشجاعة التي نزلت من الشرفة وهتفت ضد النظام ليست سوى دليل على ذلك.

السابق
الخليج والتحدي اليمني… والتحديات الداخلية
التالي
خلاف الأحجام نحو الحل.. أم نحو حكومة أمر واقع