ما هي الحسابات الداخلية التي تؤخر ولادة الحكومة؟

في خلفية تعثّر ولادة الحكومة العتيدة رغم مرور شهرين على تسمية الرئيس نجيب ميقاتي رئيسا مكلفاً تأليفها، يتوارى بطبيعة الحال العديد من الاسباب، التي يذهب بعض الراصدين للوضع اللبناني الى حد الجزم بأنها اسباب محض إقليمية، إذ إن التطورات والتحولات التي عصفت بالعواصم العربية منذ انفجار أحداث تونس ثم "انتفاضة" مصر وما أعقبها من انتفاضات وحروب ممتدة ومتواصلة، فرضت على رعاة عملية التأليف و"طابخيها"، التريث في انتظار جلاء الصورة وانكشاف المشهد المتكون للتو.
إلا أن هذا العامل، على بلاغته وأهميته، لا يحيط، بالنسبة الى فريق الضالعين في تفاصيل الشأن اللبناني، بكامل جوانب الصورة وخطوطها الخفية، اذ انهم ما برحوا يقيمون على اعتقاد فحواه ان "أزمة" تعثر ولادة الحكومة العتيدة، لها بالاصل بعدان داخليان:
البعد الأول عنوانه العريض عملية "الشد والرخي" الحامية في داخل فريق الأكثرية الجديدة حول مسألة اساسية هي: مَن الجهة التي يمكنها ان ترث "تركة" قوى 14 آذار في الحكومة، حتى تأتي الحكومة المقبلة "متوازنة"، وهو واقع يصفه البعض بأنه خلاف "رؤيوي" يتصل بطبيعة المرحلة المقبلة والتوازنات بين القوى، خصوصاً على الساحة المسيحية.
فمنذ فترة لم يعد بإمكان احد ان يحجب عن الانظار "التنازع" الحاصل بين الرئاسة الاولى وبين رئيس "تكتل التغيير والاصلاح" النائب العماد ميشال عون، حيث في خلفية الصراع على الحصص الوزارية بينهما، "هواجس" متصلة بانتخابات سنة 2013 ورغبة الرئاسة الاولى في "حفر" حضور لها على ساحتي جبيل وكسروان خصوصا.
ولقد حفلت "الكواليس" الوثيقة الصلة بهذا الموضوع بمعلومات عن "استدعاء" خبير دستوري مخضرم لسؤاله عن امكان أن يطعن فريق معين بآلية انتخاب رئيس الجمهورية في ربيع عام 2008، حيث رغم ان الامر صار واقعاً قائماً، الا ان ثمة من لا يزال يتوجس من مسألة ان يواجه لاحقا بموضوع "تقصير الولاية".
كذلك تحفل الكواليس نفسها بأنباء عن مكمن سياسي نصب لوزير محسوب على الرئاسة الاولى، اذ – ونتيجة اتصالات – تم استقباله، على أمل ان يكون ذلك مقدمة لازمة لفتح السبيل أمامه مجدداً الى مقاعد مجلس الوزراء، فاذا بالرسائل الخفية التي بعثت بعد هذا اللقاء تقول بصراحة ان الموقف المبدئي لم يتغير، وتجربة "الممتحَن" في الحكومة الساقطة حديثاً لم تكن مشجعة وموفّقة لتوجب اعادة النظر بوضعه.

هي إذاً حرب داخلية "عنوانها التفصيلي، وفق بعض مصادر الاكثرية الجديدة، ان العماد عون ما برح يرفض حتى اللحظة رفضاً قاطعاً فكرة الـ15 وزيراً المخصصة لرئيس الجمهورية والرئيس المكلف، ويجادل حتى "قطع النفس" في معرض ممانعته الاستجابة لهذا الطلب، رغم ان رئيس "جبهة النضال الوطني" النائب وليد جنبلاط حمل اليه في لقائهما المشترك ما يوحي بأن رئيس مجلس النواب نبيه بري يمانع ضمناً السير في مندرجات هذا العرض.
واللافت في الامر أن الرئيس المكلف يجنح الى تبني وجهة نظر رئيس الجمهورية، على نحو يبدو وكأنهما فريق واحد في مرحلة ما قبل التأليف، ومن ثم بعد تلك العملية، حيث ثمة انفتاح لصفحة جديدة بمواصفات مختلفة كلياً عن المرحلة التي سلفت.
إذاً، في رأي هؤلاء المراقبين، أن ثمة سعياً خفياً من الرئيس ميقاتي لأخذ ثمن لا يستهان به نظير اقدامه على ما أقدم عليه، وهو حتى الآن ورغم مرور نحو 60 يوماً على حمل لقب الرئيس المكلف لم يبدُ انه مستعد للمساومة عليه. أما رئيس الجمهورية لدى الفريق اياه، فهو ايضا يعلن عبر رسائل علنية ومضمرة، انه لن يقدم على تقديم غطائه "المهم" في هذه اللحظة للحكومة العتيدة قبل ان يقطع الشك باليقين حيال العديد من "هواجس" المرحلة الآتية، ومستقبل موازين القوى فيها. وأكثر من ذلك، فالتباين "الرؤيوي" هذا، الحائل دون ولادة سلسة وسريعة للحكومة العتيدة، يمتد استطرادا الى ثلاثة بنود اساسية هي:
– كيف يمكن تجسيد تطلعات الافرقاء وحساباتهم المستقبلية في توازنات الحكومة العتيدة.
– ماذا عن "أجندة" ومهمات هذه الحكومة لاحقاً.
– وماذا عن أولويات هذه "الاجندة"، وأي الهموم والقضايا تسبق الاخرى وتعطى لها المكانة الاولى.
البعد الثاني يتصل بأداء الرئيس ميقاتي نفسه، وهل فعلاً انه "يوقت" و"يدوزن" حركته على وقع حسابات اقليمية وخارجية وانه ينتظر كلمة سر من مكان ما او من أمكنة متعددة ليُقْدِم على انجاز المهمة التي تَنَكَّبَها طائعاً مختاراً قبل نحو 60 يوماً؟

لا ريب في ان حلفاء ميقاتي باتوا على ثقة ويقين من أمرين اثنين: الأول، ان الرجل ليس في وارد التراجع عما بدأه ولأن ذلك في جوهره ومؤاده "انهاء" لطموحاته السياسية. اذ ان الذين سموه لهذه المهمة الجليلة، لن يقبلوا له عذراً لإحجامه بعد إقدامه، والذين ناصبوه العداء وقطعوا الطرق واحرقوا الاطارات ومارسوا عليه شتى الوان الضغوط، لن يغفروا له ذنباً ولن يفتحوا له الابواب ليكون بينهم. وعليه. فإن حلفاء ميقاتي الجدد على بيّنة من رغبة الرجل في ألا يكرر تجربة ترؤسه الحكومة الانتقالية المحدودة في صيف عام 2005 والتي اعتبرها لاحقاً "تضحية" كبرى لم ينله منها ثواباً أو شكوراً. والثاني، ان ميقاتي تعرض ولا يزال لضغوط ثقيلة الوطأة من قوى 14 آذار في الداخل ومن حلفائهم الخارجيين، في محاولة مكشوفة لجعله يعتذر أو يعتكف أو يقبل بما لا يمكن ان يقبله وقد صار في حضن مناخات المعارضة السابقة، وعليه ان يلتزم بشكل أو بآخر روحية توجهاتها كأضعف الإيمان.
لكن السؤال الذي تتمحور المناقشات حوله في داخل فريق الاكثرية الجديدة هو: هل ان ميقاتي لم يكن موفقاً في حساباته عندما لم "يضرب الحديد وهو حامي"، وبالتالي لم يجعل تلك المسافة الزمنية الشاسعة نسبياً بين التكليف والتاليف بعيدة على هذا النحو، ام ان التطورات والتحولات قد عاكست توجهاته وحساباته؟ ولا ريب أيضا في أن قوى الاكثرية الجديدة أعطت لحليفها الجديد بعض العذر في البداية، لا سيما وقد بدأ البحث جدياً عن "وصفة النجاح" المضمونة لمهمته الجديدة الصعبة، على نحو يفي بما طرحه أمامهم في البداية من أنه لا يريد أن يؤلف حكومة ويشرع في تجربة، ويقدم كلتيهما على طبق من ذهب بعد وقت قصير لخصومه المتربصين الذين أبلغوه صراحة وبالفم الملآن أنهم لن يتوانوا ويقصروا اطلاقاً عن استخدام كل ما ملكته ايمانهم من اسلحة للنيل منه، ولم يستحوا ان يقولوا له هذا الكلام حتى وهو في ضيافتهم وبين ظهرانيهم.

لكن يبدو جلياً أن هذا الفريق السياسي بات في الأيام القليلة الماضية يعتقد ان "فترة السماح" المعقولة التي منحها لميقاتي قد شارفت النفاد، وان الوضع يتطلب حراكاً من نوع مختلف على نحو يعيد بعث الحياة في أوصال عملية التأليف.
وهكذا وخلال وقت قصير ظهرت سلسلة مواقف متزامنة توحي وكأن أقطاب هذا الفريق باتوا يرفضون سياسة التمهل في التأليف، وابرز هذه المواقف:
– لقاء بين ممثلي القوى الاساسية الثلاث في فريق الاكثرية الجديدة والرئيس المكلف، افصح فيه الوفد عن رغبة قياداته بمزيد من الوضوح والشفافية والسرعة في التاليف.
– لقاء بين الرئيس بري والنائب جنبلاط بدا فيه الأخير مستاء جداً من عملية التأخير ومتوتراً من خطاب الفريق الآخر، ومعرباً عن رغبته من ان يأخذ هو دوره المباشر في دفع عملية التأليف، فكانت زيارته للعماد عون في الرابية.
– وقبل كل ذلك كان خطاب السبت للامين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله، الذي عرج فيه على الموضوع الحكومي مبدداً الالتباس حول ثلاثة امور اساسية هي:
• ان ميقاتي ما زال موضع ثقة كل الأكثرية الجديدة.
• ان لا حكومة تكنوقراط، فهذا النوع من الحكومات اصبح من الماضي بعد اتفاق الطائف.
• ان انتزاع السلطة من يد الحريري كان في مقابل القرار الظني وهو امر يتقاطع مع معلومات راجت في بعض الكواليس السياسية عن ان "حزب الله" يريد موقفاً جلياً من الحكومة الجديدة في موضوع المحكمة الدولية.
– ايضاً كان ثمة موقف من حليف ميقاتي الوزير محمد الصفدي، رفع فيه منسوب الرد على هجمة تيار "المستقبل".
كل تلك المواقف كانت بمثابة حافز لميقاتي وانطوت على جملة رسائل فحواها ان ثمة "يوماً آخر" في عملية التأليف.

وبناء على كل هذه المعطيات، فإن السؤال الذي يبقى ينتظر من يرد عليه بحزم، هو: هل تكون مهلة الاسبوع التي تفصل عن نهاية الشهر الجاري هي المهلة الأخيرة لولادة الحكومة المنتظرة؟
علماً أن هناك في "حزب الله" من يوحي بأن ميقاتي أبلغ من يعنيهم الأمر بصراحة: "لا تطلبوا مني الدخول في لعبة تحديد المواعيد!".

السابق
مصادر ميقاتي: الرئيس حريص على ان تكون الصورة خلال احتفال تنصيب البطريرك الجديد جامعة
التالي
بري: عملية تأليف الحكومة جرى وضعها على نار حامية