تركيا.. ملاحظات أساسية حول المحاولة الانقلابية الفاشلة

فشلت المحاولة الانقلابية في تركيا. هي كانت محكومة بالفشل أصلا، وبكل المقاييس رغم أن معالجة ذيولها أو التخلص من تبعاتها سيستغرق وقتا طويلا، أسابيع، وربما شهور أيضا.

اقرأ أيضاً: ماذا لو نجح الانقلاب التركي؟

حول المحاولة الانقلابية أسباب فشلها وتداعياتها على المشهد السياسي في تركيا والمنطقة، يمكن تسجيل الملاحظات الأساسية التالية:

– فشل الانقلاب لأن هذا هو الأصل أو المنطق، والمفاجأة كانت حدوث العكس في بلد تضاعف ناتجه القومي ثلاث مرات خلال 12 سنة، وحقق نسبة نمو تقارب الـ5 بالمائة خلال العام الماضي، ويملك فائض ميزانية بلغ 3 مليارات دولار في الخمسة شهور الأولى من العام الحالي. ببساطة هو بلد مستقر رغم الصعوبات والتحديات في محيط إقليمي مشرقي هائج، وهو يبدو مستقرا أيضاً حتى قياساً إلى جواره الأوروبي.

– تبدو تجربة حزب العدالة رغم الخطاب الأيديلوجي الذي طغى في السنوات الأخيرة، وتم التراجع عنه أو تخفيفه إثر التطبيع والمصالحة مع روسيا وإسرائيل أقرب إلى تجربة اليميني المحافظ عدنان مندريس رئيس الوزراء في خمسينيات القرن الماضي، الذي انقلب عليه الجيش قبل أن يتم إعدامه فيما بعد، تلك التجربة التي قال عنها ذات مرة رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو إنها لن تتكرر، وسيقاتل أحفاد مندريس دفاعاً عن تجربتهم التي كان من الطبيعي ألا تنجح محاولة إسقاطها بعد 14 عاما لها في السلطة، وبعد حصولهم على نسبة تأييد من نصف الشارع التركي في الانتخابات الأخيرة.

– ارتباطاً بما سبق لم يكن من المفاجىء أن تدحر المحاولة الانقلابية على يد المؤسسات الراسخة التي أقامها حزب العدالة والتنمية منذ وصوله للسلطة، وتحديداً جهازا المخابرات والشرطة اللذانا كان على استعداد لمواجهة الانقلاب والانقلابيين حتى الموت، كما قال رئيس الاستخبارات هاكان فيدان لقائده الرئيس أردوغان عند إعلامه بنبأ المحاولة الانقلابية، علما أن كشف الانقلاب قبل وقوعه وإجبار المنفذين بالتالي على التعجيل به كان أحد أهم أسباب فشله.

– ليس فقط المخابرات والشرطة، وإنما الجيش نفسه أو الهيكل والإطار العام للجيش بدا خارج الانقلاب، ورغم تورط بعض الجنرالات الكبار مع آلاف من العناصر التابعة لفتح الله غولن، إلا أن عدم انخراط قائد الجيش ونوابه وقائد الجيش الأول ساهم أيضاً في هزيمة الانقلاب، الذي ما كان له أن ينجح في غياب الدعم له من الجسم العام والمركزي للجيش، علماً أن هؤلاء الضباط كما التراتبية العسكرية تقبلت فكرة الفصل بين الجيش والسياسة، وخضوعها بالكامل للقيادة السياسية الديموقراطية المنتخبة مع احتفاظها طبعاً بحق إدارة الجيش وشؤونه الداخلية بشكل مهني ومحترف وبعيداً عن تدخل السياسيين.

الانقلاب في تركيا

– فكرة الاحتماء بالشعب في مواجهة الانقلاب، وطلب مساعدته دفاعاً عن الديموقراطية المؤسسات الحاضر والمستقبل كانت السبب الرئيس والمركزي لإفشال الانقلاب، وما كانت لتتحقق أصلاً لولا نجاح المخابرات في اكتشاف الانقلاب وحماية الرئيس بدعم من القيادة الشرعية للجيش. وهذه الفكرة أي الاحتماء بالشعب لجأ إليها الرئيس أردوغان قبل ذلك في مواجهة الانقلاب الناعم أو القضائي الذي سعت جماعة غولن لتنفيذه في كانون الأول/ديسمبر 2013، وأرادت من خلاله إسقاط الحكومة المنتخبة، وتشويه سمعة الحزب الحاكم، والذهاب إلى انتخابات مبكرة تأتي بتحالف واسع من أحزاب المعارضة الهشة والضعيفة تحت سيطرتها التامة. وهنا يجب تذكر خطاب الرئيس أردوغان أثناء الحملة الانتخابية البلدية ربيع العام 2014 وإلى ما يشبه خطابه الحالي، وهو ما ساهم آنذاك أيضاً في إفشال الانقلاب القضائي لجماعة غولن.

– لا يمكن إنكار الدور المهم الذي لعبه قادة ومسؤولو حزب العدالة والتنمية، الذين كانوا أول من نزل للشارع وقبل كلمة الرئيس أردوغان، وهم من ساهموا في تشجيع الشرطة على الثبات والمقاومة وتشجيع الناس للنزول وحماية المؤسسات المدنية والمعنوية التي أراد الانقلابيون السيطرة عليها كمقر الحزب نفسه إضافة إلى مبنى بلدية اسطنبول الكبرى ومبنى الأمن العام بالمدينة.

– ما كان للانقلاب أن ينجح أصلا في ظل رفض الحلبة السياسة بالكامل له، كما تبدى أيضاً من صمود البرلمان رئيساً وأعضاء وأحزابا في وجه القصف الهمجي وغير المسبوق لمبانيه، وفي ظل رفض وسائل الإعلام بجميع انتماءاتها حتى المعارضة منها للانقلاب أو إعادة الساعة للوراء. وهنا بدا لافتاً سعى الانقلابيون لإسكات ليس فقط القناة الحكومية الرسمية، بعد إلقاء البيان الأول عبرها، وإنما حتى قناة سي.ان.ان ترك المعارضة والمعبرة عن النواة الصلبة للنخبة الأتاتوركية العلمانية في البلد.

– بشكل أوسع وأشمل وأعم، لا يمكن أن ينجح انقلاب في بلد مستقر، تكاثفت نخبه السياسة والإعلامية وفي القرن الواحد والعشرين، قرن ثورة الاتصالات والأجهزة التكنولوجية المتطورة، ووسائل التواصل الاجتماعي التي خاطب الرئيس جمهوره من خلالها ولا يمكن أن ينجح أي انقلاب أصلاً دون دعم شعبي راسخ. ومن هنا فإن الفشل في الحالة التركية الراهنة كان هو القاعدة والنجاح هو الاستثناء.

– لا يمكن التشكيك أو الجدال في حقيقة مسؤولية حركة خدمة أو جماعة غولن عن الانقلاب، والأمر كان محط تسريبات وتكهنات منذ شهور، حتى أن رئاسة الأركان أصدرت بياناً رسمياً منذ شهور قليلة تنفي فيه تفكيرها بالانقلاب، وتؤكد فيه على خضوعها للقيادة السياسية المنتخبة، كما هو الحال في أي بلد ديموقراطي، وبعد معركة استمرت ثلاث سنوات تقريباً بين الحكومة مؤسساتها الشرعية المنتخبة والجماعة الخارجة عن القانون، نجحت فيها الأولى في كسر أذرع الثانية الاقتصادية الإعلامية التعليمية، كما قلصت تواجدهم في أجهزة الشرطة القضاء والنيابة العامة بحيث بات الجيش معقلها أو جدارها الأخير، ورغم الحساسية في تناول الموضوع، إلا أن ثمة قناعة سادت صفوف الحكومة والحزب على حتمية وجودهم وتغلغلهم في المؤسسة العسكرية، وبالتالي ضرورة تطهيرها منهم، وهو ما كان متوقعاً في اجتماع المجلس العسكري الأعلى الذي كان مقرراً أوائل آب/أغسطس وشكل بالتأكيد أحد أسباب الانقلاب كما التعجيل به.

– لا يمكن نفي العامل أو البعد الخارجي للانقلاب، وفي ظل اليقين من مسؤولية جماعة غولن عنه ووجود قائدها وزعيمها في ولاية بنسلفانيا الأمريكية، فيمكن الاستنتاج أن ثمة ضوءا أخضر أو حتى برتقاليا أمريكيا، وفي الحدّ الأدنى عدم ممانعة واشنطن في قيامه، وحتى تمني انتصاره كما اتضح من لهجة السفارة الأمريكية في أنقرة التي أسمته بالانتفاضة ثم في تصريح وزير جون كيري عن عدم تنفيذه بشكل جيد وهو التصريح الذي حذفته سي.إن.إن فيما بعد من موقعها.

– في التداعيات الداخلية للانقلاب يمكن التأكيد أنه هزم وهزيمته طوت صفحة الانقلابات في تركيا للأبد، إلا أن تجاوز آثاره السلبية لن يكون سهلاً أبداً ، في ظل تغلغل جماعة غولن العميق في الجيش والمؤسسات المدنية الأخرى، غير أن المزاج الوطني العام الذي أفشل الانقلاب كما التوحد السياسي الإعلامي في مواجتهه، سيجعل الأمر أسهل كما أن البيئة الحزبية ستكون جاهزة أكثر لنقاش شكل ومضمون الدستور الجديد الذي سيكون إقراره في البرلمان أو في استفتاء شعبي بمثابة الخطوة الحاسمة والنهائية نحو مغادرة حقبة الانقلابات البشعة وسيئة الصيت.

-خارجيا ستتأثر العلاقات سلباً مع أمريكا وأوروبا في ظل اليقين التركي بدعم واشنطن وبروكسل للانقلاب، أو على الأقل العلم به وعدم عرقلته وتحذير أنقرة لأخذ احتياطاتها، خاصة أن جزءا مهما منه تم تخطيطه وتنفيذه في قاعدة إنجيريليك الجوية تحت بصر وسمع الضباط الأمريكين والأوروبيين المنتشرين فيها، وعموماً تفهم السلطات هنا الرسالة بصفتها رغبة أمريكية وغربية في إشغال تركيا بنفسها وعرقلة نهوضها، مع السعي لإعادتها إلى بيت الطاعة الغربي، كما كان الحال زمن تركيا القديمة زمن الانقلابات العسكرية المدعومة غربيا، وهو الأمر الذي لا تبدو القيادة الحالية كما المزاج الشعبي في تركيا الجديدة بوادر القبول أو الانصياع له بأي حال من الأحوال.

(عربي21)

السابق
قراءة في مستقبل الشرق الأوسط الجديد بين دول لامركزية، إتحادات فدرالية أو كونفدرالية
التالي
هكذا استدرج منفذ عملية ميونيخ ضحاياه!