البقاعُ الشمالي: انتخابات بلا حسابات

في تلك المنطقة التي تنحدر أرضها باتجاه الشمال، من بلدتَيْ عرسال شرقاً وحربتا غرباً حتى قريتَيْ القصر والقاع عند الحدود السورية على مسافة واحدة من الهرمل، مروراً باللبوة والنبي عثمان والعين والفاكهة ورأس بعلبك، وعلى بعد شهر أو أقل من موعد الانتخابات البلدية المتوقعة، لم يكلّف أي مجلس بلدي نفسَه عناءَ تقديم كشف حساب بإنجازاته لجمهوره. كذلك فعل رعاة تلك المجالس من أحزاب وعائلات وفعاليات سياسية واجتماعية، كأنَّهم جميعاً متفقون على أن «اللي فات مات»، وأن المهمة الوحيدة مرحلياً تقتصر على شدّ العصبيات العائلية والحزبية والمذهبية من أجل منع حصول أي اختراق هنا أو هناك كي يبقى الفساد بشتى أشكاله عنواناً للمرحلة القادمة.
في تلك البقعة، من الطبيعي أن تلمح رئيس بلدية أو عضواً فيها يمشي متبختراً أمام آلية لفلش الإسفلت أثناء تعبيد أحد الطرقات متجاهلاً أن طبقة «الكولاس» (الإسفلت المائع) التي تفرضها المواصفات العامة للأشغال غائبة من تحت قدميه.. أو أن يصرّحوا بأن مسؤولية فتح تحقيق في ظروف غامضة لموت مواطن بسبب إهمال أو خطأ طبي هو من اختصاص وزارة الصحة فقط، أو أن يبرروا تقصيرهم بعدم الضغط على القوى العسكرية الرسمية لضبط الأمن الفالت عموماً، بالخوف من حصول مضاعفات لا يريدها الجميع في هذه المرحلة الدقيقة والحرجة من تاريخ الأمة!!..
هناك، وبالرغم من اعتراضات خجولة وخافتة لعدد من أعضاء المجالس البلدية، إلا أن الجميع تواطأ في النهاية من أجل عدم تنفيذ مصلحة المواطن الذي انتخبهم للقيام بما يلزم لتحسين عيشه في ظل القوانين والأنظمة، فعلوا ذلك لضمان مصالح عصبية ومادية ومعنوية، ولإرضاء بعض الزعماء الشركاء في أكل جبنة التعهدات العامة في شتى الوزارات، وأولاً وأخيراً من أجل استمرار تدني مستوى المعيشة ضماناً لمكاسبهم في السلطة.

إقرأ أيضًا: الانتخابات البلدية بدأت جديا.. وهكذا تستعد القيادات السياسية
عموماً تشابَهَ أداء المجالس البلدية في السنوات الست الماضية مع فوارق بسيطة تكاد لا تُذكر، حيث التزم أولياء الأمر بشعار النأي بالنفس عن المهام الأساسية في الإنماء، وحافظوا على مهمة تلك السلطات المستقلة مالياً وإدارياً ضمن حدود رفع القمامة وتعبيد الطرقات وإقامة جدران الدعم، بعيداً عن المشاركة في تطوير القطاعات الصحية والتربوية والبيئية والسياحية والخدماتية أو حتى ممارسة الرقابة على ما يجري فيها بالحد الأدنى، وهذا من صلب عملهم. فعلى سبيل المثال تراجع مستوى الخدمات الاستشفائية – المتدني أصلاً – بسبب الفساد المنظّم الذي شهده هذا القطاع في السنوات الأخيرة مما أدّى إلى توجّه المواطن الدائم صوب مستشفيات بعلبك والعاصمة، وازداد تلوث الينابيع السطحية والمياه الجوفية بسبب النشاط الإنساني المخالف للشروط البيئية في محيطها، وتكاثرت الأبنية كالفطر عشوائياً هنا وهناك بعيداً عن أي تخطيط، خصوصاً بعد بِدعة وزارة الداخلية بالسماح لبلديات القرى إعطاء تراخيص بناء والتي أدت إلى حصول المخالفات بشتى الأشكال والأنواع، وتدنّت المبادرات لتطوير قدرات الشباب عبر دعم أندية رياضية مثلاً وحثّها على تدريب أفرادها وتطوير فرقها للمشاركة في نشاطات وطنية أو عبر إقامة برامج تمكينية لمساعدتهم على امتلاك مهن تسهل عليهم دخول أسواق العمل. وخسر القطاع السياحي الكثير من رواده بسبب الأوضاع الأمنية لاسيما منها المتعلق بأعمال السلب على الطريق الممتدة من مدخل رياق الشمالي حتى مفرق حربتا مروراً بأطراف بعلبك. وغاب الاهتمام بتنظيم قطاع النقل عبر إنشاء محطات انطلاق للركاب تضمن سلامتهم وتمنع التشبيح. وحافظت المؤسسات التربوية الرسمية على وتيرة تراجعها بعيداً عن أي تدخل لمساعدة إداراتها على تجاوز الأسباب التي أدّت إلى ذلك.

إقرأ أيضًا: نفايات بشامون وصلّت «ريحتها» لأخلاقيات البعض من البلدية: ما حصل مع الزميل نبيل الرفاعي أنموذجا
على بعد شهر أو أقل من الاستحقاق، تتشابه الصورة الانتخابية مع مثيلتها قبل ست سنوات. مدينة الهرمل التي نجح مجلسها البلدي التابع لحزب الله بالتزكية في الدورة الماضية تشهد حراكاً معارضاً خجولاً يقوم به بعض الناشطين في ظل غياب شبه تام لماكينة الحزب الانتخابية. في عرسال تنشط حركة بعض المرشحين القدامى والجدد تحت شعار رفع الغبن عنها إنما ضمن السقف العام لتيار المستقبل وفي ظل مخاوف من حصول إشكالات أمنية لمنع حدوثها ضماناً لاستمرار المجلس البلدي القديم. في اللبوة التي شهدت خسارة لائحة حزب الله في الانتخابات الماضية وفوز لائحة العائلات، من الممكن تجدد «السيناريو» نفسه لاسيما مع بروز أكثر من مرشح مقبول شعبياً ضمن خيار العائلات في وجه مرشحي الحزب الظاهرين. في النبي عثمان يسعى الحزب القومي السوري الاجتماعي لتوحيد صفوفه بعد أن نجح حليفه حزب الله في شق صفوفه خلال الانتخابات السابقة. في العين التي امتنع فيها أغلب الناخبين السنة التابعين لتيار المستقبل عن التوجه إلى صناديق الانتخابات المرّة الماضية، قد يتجدد المشهد نفسه وقد يتوسّع إذا فشلت المساعي في ضم مرشحين عن اليسار إلى قائمة تحالف حزب الله وحركة أمل. في رأس بعلبك ينتظر الجميع مبادرة الوزير السابق ألبير منصور بعد غياب طويل عن مسقط رأسه في ظل تحرك محدود للقوى الحزبية المسيحية، لكن بعض الناشطين بادر تحت شعار حق رأس بعلبك بالحصول على مجلس بلدي يرعى واقع وحاجة ومستقبل البلدة. الفاكهة تشهد كعادتها صراعات عصبية ضمن عائلاتها المسلمة، بينما يترقّب مسيحيوها ما يحصل لتبيان ما ستسفر عنه الغربلة النهائية للمرشحين كي يبنوا تحالفاتهم عليها. في القاع لم ينعكس تحالف التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية على ساحتها الانتخابية بل يحصل العكس حتى الآن، علماً بأن بلديتها محلولة وسط اتهامات حول سوء إدارة سلطات الوصاية لأموالها.
عموماً، تشهد المجالس همساً كثيراً بسبب سوء إدارة الملف البلدي، لكن الواضح أن الغالبية ما تزال على إيمانها بمبدأ «الأقربون أولى بالمغانم البلدية» دون تفكُّرٍ جدي بمستقبل مجتمعاتهم التي تسير أحوالها من سيئ إلى أسوأ.

(السفير)

السابق
ديلي بيست: ما لا تعرفه عن العقل المدبر لتنظيم الدولة
التالي
عن الخطة (ب) غير الموجودة في سوريا