الأشخاص المعوقون: الأجساد ثمن للقتال العبثي

الدولة لا تعترف بوجود جرحى حرب (الأرشيف)

لا يوجد في لبنان مسح شامل لعدد الأشخاص الذين استجدّت لديهم إعاقات جراء الحرب الأهلية (1975-1990). بل هناك تضارب وتفاوت في المصادر حول العدد الفعلي للأشخاص ذوي الإعاقة بشكل عام في لبنان. فبحسب «الدراسة الوطنية حول الأوضاع المعيشية للأسر» الصادرة عن إدارة «الإحصاء المركزي» العام 2004، قُدّر العدد الإجمالي للأشخاص المعوقين بحوالي 74 ألفاً، أي ما يعادل نسبة 2 في المئة من الشعب اللبناني، على أنّ 7.9 في المئة منهم مصنّفون كمصابي حرب.
فيما أشار سكرتير «اتحاد المقعدين اللبنانيين» جهاد إسماعيل لـ «السفير» إلى أنّ الدراسة التي أعدّها الاتحاد في العام 2000 أظهرت أنّ عدد الأشخاص المعوقين يُقدّر بنحو 140 ألف نسمة، أي نحو 4 في المئة من الشعب اللبناني، على أن نحو 15 في المئة منهم معوّقو حرب. لكن وبعيداً عن هذه الأرقام ومدى مقاربتها للواقع، ما هو مؤكّد أنّ العدد الفعلي للذين أصيبوا بإعاقات دائمة بسبب الحرب أعلى بكثير من أرقام تلك الدراسات، إذ يكفي أن نضيف إليها المتوفين بعد انتهاء الحرب العام 1990، كي نصبح أمام أرقام تفوق ضعف الأرقام الحالية.
كيف يعيش أولئك الذين دفعوا أثمان الحرب إعاقات شتّى اليوم؟ وكيف ينظرون إلى واقعهم ومحيطهم في الذكرى الخامسة والعشرين على انتهاء الحرب الأهلية؟ تواصلت «السفير» مع العديد من مصابي الحرب، المدنيون منهم والمقاتلون. رفض البعض الكلام لعدم جدواه مفضّلا إبعاد شبح تلك الأيام وذكراها وأطلق البعض الآخر صرخة منتقداً غياب الدولة ومؤسّساتها عن قضاياهم.
محاربون معوّقون

على مقلب المحاربين الذين أصيبوا أثناء المعارك، فقد أجمعوا على أحقية القضية التي قاتلوا من أجلها، بالرغم من أثمانها الباهظة. فالمقاتل في صفوف «حركة أمل» ماهر مرتضى أكّد بأنه «غير نادم على مشاركته في الحرب لاسيّما أنّها فُرضت عليه فرضاً»، علماً أنّ إصابته في ظهره أحدثت له شللاً نصفيّاً أقعده عن العمل. عزاؤه الوحيد أنّه يعتبر سقوطه جريحاً في معركة «حرب العلمين» العام 1987 في مواجهة الحزب التقدمي الاشتراكي «تضحية في سبيل العَلَم والوطن». لكنه يخشى اليوم ويحذّر «من العودة إلى الحرب»، مشدّداً على أنّ «العدو الوحيد هو إسرائيل».
من ناحيته اعتبر المقاتل في صفوف «منظمة العمل الشيوعي» عبدالله مشيمش أنّ مشاركته في الحرب انطلقت من قناعته في التغيير. لكنه يعترف بأن تلك الحرب حمّلت البلد الكثير من الأعباء وأوصلته إلى حد الكارثة. لذا يرى «أنه ليس في مستطاع أحد تغيير الواقع وتحقيق أهدافه بواسطة الحرب»، مضيفاً «ليتشاجر الجميع ما شاؤوا في السياسة لكن حذاري تكرار التجربة». علماً أنّ إصابة مشيمش في معركة ظهر الوحش العام 1976 أسفرت عن عطب دائم في قدمه، الأمر الذي يستدعي منه تحمل تكاليف العلاج مدى الحياة.
أما المقاتل في صفوف «تيار المردة» وهيب خواجة فقد بدا شديد الحماسة في الدفاع عن القضايا التي قاتل من أجلها، لاسيّما أنّه وجد احتضاناً كبيراً من قبل تنظيمه السياسي بعد الحرب. أوضح بأنه لا يتمنّى عودة الحرب، لكنه شدّد على أنه جاهز للقتال من جديد إذا اقتضى الأمر للدفاع عن بيته وكنيسته ومنطقته، كما فعل سابقاً. وللعلم تعرّض خواجة للعديد من الإصابات خلال الحرب الأهلية بدءاً من العام 1975، أدّت إحداها إلى بتر ساقه وذلك خلال وقوعه في حقل ألغام في جبل نيحا، أثناء المعارك بين «تيار المردة» و «القوات اللبنانية» العام 1981. ثم تابع القتال وأصيب للمرة الثالثة في معارك «المردة» – «الحزب القومي» العام 1984 في منطقة الكورة. هذا وقدّ تعرّض خواجة إلى إصابة رابعة أدّت إلى حروق بالغة في أنحاء جسده كافة، حيث صُودف وجوده على متن طائرة الرئيس الشهيد عمر كرامي العام 1987.

حرب عبثية
من جهتها، اعتبرت ماري خوري أنّ مشاركتها في الحرب أتت في سياق الدفاع عن النفس، لاسيّما أنّها لم تحمل سلاحاً يوماً في حياتها حتى خلال الحرب. اقتصر دورها في «القوات اللبنانية» على التفرّغ في «سلاح الإشارة». تعلن خوري اليوم أنها ضدّ الحرب بشكل مطلق لاسيّما أنها دفعت ثمنها إصابة في الرقبة أدت إلى شلل رباعي أقعدها مدى الحياة، وذلك خلال حرب الجبل بين «القوات اللبنانية» و «الحزب التقدمي الاشتراكي» في العام 1983.
على مقلب المدنيين الذين أصيبوا بشظايا ورصاص من طريق الخطأ، اعتبر كلّ من موريس بعقليني وحسام الدنف أنهما وقعا ضحايا حرب عبثية «لا ناقة لهما فيها ولا جمل». فبعقليني الذي تعرّض لإصابة في الرأس سبّبت له شللاً نصفياً، وذلك خلال مروره في منطقة سبنايا العام 1978، يرى «أنّ المدنيّين دفعوا ثمن أخطاء غيرهم ومرّت المسألة من دون أن يُحاسَب أحدٌ وكأنًّ شيئاً لم يكن». أما الدنف فاكتفى بالقول إنه «كان إنساناً مدنيّاً لم ينتمِ لأي حزب في حياته ودفع ثمن الحرب ولم يلتفت إليه أحدٌ». علما ًأنّ الدنف كان قد أصيب برصاص طائش في ظهره أثناء «حرب الإلغاء» العام 1990 أبلته بالشلل النصفي.

غياب الدولة

أمّا لناحية تعاطي مؤسسات الدولة مع هؤلاء فقد أجمعوا على غيابها مشدّدين على بطء ومماطلة وزارة الشؤون الاجتماعية في تقديم الخدمات الأساسية. تأسّف مرتضى لـ «اقتصار تقديمات وزارة الشؤون الاجتماعية على المساعدات البديهية، التي تحتاج إلى إجراءات بيروقراطية كثيرة للحصول عليها، ما يدفع بطالبها إلى العزوف عنها. ويسري هذا الأمر على الكثير من الأمور مثل الحصول على الكرسي المتحرك أو الفراش المائي». لذا اعتبر مرتضى نفسه محظوظاً بانتمائه إلى صفوف «تنظيم سياسي» يؤمّن له راتباً رمزياً يجعله بغنى عن طلب المساعدة من الدولة ومؤسساتها».
من ناحيته، أعرب مشيمش عن سخطه لعدم اعتراف الدولة حتى بوجود جرحى حرب، لاسيما وأن وزارة الشؤون الاجتماعية لا تميّز بينهم وبين بقية الأشخاص المعوّقين. ليس هذا فحسب، بل إن»بطاقة الإعاقة» التي تقدمها الأخيرة تكاد تقتصر امتيازاتها على إعفائهم من بعض الضرائب المحلية فقط». وأضاف بأنه كان من المفترض أن تمنح هذه البطاقة حاملها حق العلاج المجاني، لكن جميع المستشفيات لا تعترف بها.
بدوره شكا بعقليني من الغياب التام لخدمات الدولة عن الأشخاص ذوي الإعاقة، مشدّداً على أن «البطاقة» لا تخوله حتى الدخول إلى المستشفيات للمعالجة. لذا تساءل بالقول: «وجدت وظيفة تعاقدية جنّبتني شرّ العوز، لكن كيف يعيش يا تُرى الشخص المعوق العاطل عن العمل؟!

«عاملونا كمواطنين»
اتفق خواجة مع مشيمش وبعقليني على عدم اكتراث مؤسسات الدولة للمشاكل التي يعانون منها، مشدداً على أهمية الاعتماد على القدرات الذاتية في تحصيل لقمة العيش. وأوضح بأنه «قبل اندلاع الحرب كان موظفاً في كازينو لبنان، الأمر الذي ساعده على تأمين حياة كريمة بعيداً عن خدمات وزارة الشؤون الاجتماعية التي تكاد لا تذكر».
حالُ ماري خوري لا تختلف عن بقية المتحدثين، إذ شكت بدورها من محدودية خدمات الدولة للمعوقين بالتقديمات البديهية». فخوري تعيش حالياً في «معهد بيت شباب» على نفقة وزارة الشؤون الاجتماعية، لكن «تقديمات هذه الأخيرة لا تكفي لعيش حياة كريمة»، كما أوضحت. فالوزارة لا تغطي حاجة خوري لبعض الأدوية والمعدات الطبية الأساسية. لذا اضطرت بعد توقيف راتبها الشهري من «القوات اللبنانية» عقب دخول سمير جعجع إلى السجن الاعتماد على نفسها، فتعلّمت الرسم وشاركت في المعارض كي تبيع لوحاتها الفنية.
من ناحيته اعتبر الدنف أن «بطاقة المعوق» عبارة عن بطاقة إحصائية ليس أكثر»، شاكياً «من المماطلة والتسويف اللذين يتعرّض لهما الأشخاص المعوّقون حركياً بغية الحصول على بعض الخدمات من وزارة الشؤون الاجتماعية». علماً أن صراع الدنف مع الإعاقة يشبه صراع العديد من المقعدين، غير أن إرادته القوية جعلته يكمل حياته بعد الإصابة محصّلاً العديد من الشهادات الجامعية التي خولته إيجاد وظيفة تعاقد مع إحدى المدارس الرسمية. ليس هذا فحسب، بل قام «بتكييف المدرسة حيث يدرّس كي تتلاءم وحاجته بغية الوصول إلى قاعات التدريس، لاسيما أنّ الدولة لم تقم بتجهيز المباني العامة بالوسائل التقنية الضرورية لتسهيل دخول الأشخاص المعوقين حركياً إليها وفقاً لنص القانون 220».
لا شك في أن بعض معوّقي الحرب الأهلية وجدوا تنظيماً سياسياً يعتني بهم ويؤمن لهم بعض متطلبات الحياة، لاسيما التنظيمات السياسية التي تسلّمت مقاليد الحكم بعد الحرب، لكن المؤكّد بأن حال الأغلبية ليست كذلك. فهل يستجيب المسؤولون لنداء مشيمش والقيام بتشكيل «هيئة عليا لجرحى ومعوّقي الحرب الأهلية» تنظر إلى مطالبهم وتُعنى بشؤونهم؟ إلى حين ذلك يبقى لسان حال الدنف معبراً عن صوت جميع الأشخاص ذوي الإعاقة: «نريد فقط أن نعامل كأي مواطن عادي وليس كمعوّقين».

(السفير)

السابق
ما الذي يقلق واشنطن بعد انتهاء «عاصفة الحزم»؟
التالي
بو صعب مفتاح انتخابي لأرمن لبنان