مقاومتان

كان مقدراً أن يجري الحديث عن مقاومة واحدة، لكن سلاسة الكلمة تعاندها تعقيدات الواقع اللبناني، لذلك ستبقى مواجهة الاحتلال الإسرائيلي مادة للاختلاف، انطلاقاً من تعيين زمن بدئها، وحتى خلاصاتها غير النهائية… حتى تاريخه. لكن وعلى الضد من كل محاولات الفرض على الواقع كما عبَّر عن ذاته، سيظل تاريخ السادس عشر من أيلول عام 1982، هو التاريخ الحقيقي لانطلاق مسيرة التصدي للاحتلال، وستظل جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، الإطار الأول الذي أطَّر جهود المقاومين الأوائل.
في شرح هذا التأريخ، ينبغي التمييز بين الأمور الآتية: الأمر الأول، هو أن قوى اليسار التي أطلقت نداء المقاومة، سبق لها أن نفذت عمليات قتالية ضد الاحتلال وميليشياته المحلية، في القسم الذي كان محتلاً من الجنوب اللبناني، وذلك قبيل اجتياح العام 1982، إلا أن العمليات اندرجت في خانة العمل “خلف خطوط العدو”، وهذا تكتيك قتالي تشهده كل الجبهات العسكرية الثابتة، وقد كان للجنوب يومها وضعية الثبات، ما بين 1977 و1982. الأمر الثاني، هو أن أعمال القصف وسواها، خلال عملية الغزو الإسرائيلي، تنسب هي الأخرى إلى المعركة العامة، من قبل الذين تجاوزتهم قوات الغزو بالتطويق، أو بالالتفاف البعيد، أو بالخرق الواسع… ولمن شاء من متابعي التاريخ، يمكن التذكير بكل المساهمات القتالية التي شهدها الجنوب منذ العام 1969 وحتى اندلاع الحرب الأهلية، ومثال بلدة كفرشوبا ساطع في هذا المجال. كخلاصة: إن نداء المقاومة الذي أطلقه الشيوعيون اللبنانيون، في الحزب الشيوعي اللبناني، ومنظمة العمل الشيوعي في لبنان، وحزب العمل الاشتراكي العربي، كان هو الرفض الأول الواضح لنتائج الغزو الإسرائيلي، وإعلان العزم على القيام بواجب إبطالها، بدءاً من العاصمة بيروت، وعلى امتداد كل الجغرافيا الوطنية المحتلة.
في الميدان، نفَّذ “الشيوعيون” أولئك، النسبة الأعلى من العمليات القتالية، ثم كرَّت السُبحة واتسعت رقعة المشاركة.في السياق ذاته، يطرح السؤال: لكن لماذا نهضت المقاومة الوطنية على دعامات يسارية أولاً؟ لأنها حصلت كامتداد لتاريخ قتالي خاص بهؤلاء، عبروا عنه في أشكال من الانخراط في المواجهة ضد إسرائيل، وذلك في امتداد نظرتهم إلى موقع لبنان ودوره، في قضية الصراع العربي الصهيوني. لقد كان حصار بيروت واحتلالها، معمودية نار أسست لمهمات الشيوعيين القادمة، وعلى معنى واسع، قامت جبهة المقاومة الوطنية كامتداد طبيعي، لما تبقَّى من نصاب الحركة الوطنية وأحزابها.
لقد توفَّر للمقاومين الجدد عوامل قوة منها، تقاطع مصالحهم مع مصالح قوى سياسية واجتماعية، توجست من المعادلة الداخلية الناجمة عن الاحتلال، ومنها، شعار المقاومين الذي جمع بين التحرير والتوحيد والديمقراطية، الذي سعى للقطع مع آثار الحرب الأهلية، ومنها، الجاهزية الميدانية والتنظيمية، التي اكتمل معظم عناصرها قبل احتلال العاصمة بيروت، وفي فترة خروج قوات منظمة التحرير منها. لقد حققت المقاومة الوطنية نصراً أساسياً، بفضل كثافة عملياتها، التي أصابت العدو بخسائر حقيقية، دفعته إلى الموازنة بين كلفة بقائه وكلفة انسحابه، فاختار الأخيرة، التي كانت أقرب إلى مزاج شارعه. حمل الانسحاب وجهي الانجاز وتحدي البقاء والقدرة على الاستمرار في تطوير الخطاب السياسي، وفي تصعيد الأداء الميداني، مما لن يكون ممكناً في مستقبل الأيام. لقد جاءت التطورات اللاحقة بالجزر، في وضعية المقاومة الوطنية، في مقابل المد المتعاظم للمقاومة التالية، الموسومة بطابعها الإسلامي، والمتكتلة حول نواة بيئتها الخاصة، ودائماً، في ظل الراية الوطنية والقومية، ومن ضمن شروط محيطة مختلفة.
في تناول وضع بيئة المقاومة الإسلامية، الاجتماعية والجغرافية، لا تسقط الإشارة إلى تطور أوضاع هذه البيئة، المقيمة على تماس مع فلسطين. لقد تدرجت “الشيعية السياسية” هناك، من “مطلب” تأكيد الذات، وتأكيد اتصالها بالوطن، مع السيد موسى الصدر، إلى الصدام مع الحلفاء قبيل العام 1980 وحتى عشية الاجتياح الإسرائيلي، إلى القتال من أجل أرجحية النفوذ بين حركة أمل وحزب الله، الذي تكرّس قائداً لخيارات الشيعية، على حاملة القوة القتالية، والرضى الشعبي والرعاية العربية، والدعم الإيراني، وعدم المناقشة من قبل باقي الأطياف، من اللبنانيين.
مراجعة أسباب تقهقر نسخة المقاومة الوطنية، وعوامل تطور أعمال المقاومة الإسلامية، يجب أن تحاذر القراءة “الفنية”، التي تربط الأمرين فقط، بمصادر التمويل والإمداد، إذ في امتداد السياسي يتوفر الدعم، بكل أشكاله، أو يحجب. هذا يقود إلى سؤال، ما السياسي الذي جعل المقاومة الوطنية “ممنوعة”، والأصح ممتنعة، في المدى اللبناني، في الوقت الذي انتزعت المقاومة الأخرى جواز المرور؟ لعل الأقرب إلى الجواب، هو أن “الوطنيين” الذين رفعوا راية الاستقلال الوطني، دفعوا ضريبة استقلاليتهم، التي لا تتواءم وحسابات الخارج المتدخل بقوة ضد الاستقلالية، ولا تتلاءم وسعي الطوائف إلى توكيد “استقلالياتها” الخاصة، على حساب مدى الاستقلال العام. لقد تقدمت المقاومة الإسلامية، لأنها كانت خاصة في بلد الخاصيات، وتراجعت المقاومة العابرة للطوائف، لأن هذه لم تسمح لأحد بالعبور. على الضد من التجاوز فالاندماج، كان التجاور فالتمايز، هذان المنطلقان أو الواقعان، لما كانت عليه المقاومة ولما آلت إليه، كان لكل منهما نظرته إلى موقع الوطن والدولة والاجتماع، ولذلك كان طبيعياً أن يتراجع النظر إلى الموقع العام، كلما تقدم وتعمق منطق الواقع الخاص. ليس أدل على ذلك، من انتقال المقاومة الإسلامية من ميدان فعلها، الذي هو مبرر نشأتها، إلى ديار غيرها، حيث لا يمكن التعرف عليها، نشأةً وخطاب نشأة. وليس أدل على اضمحلال المقاومة الوطنية، من غيابها عن “السمع”، الكلامي والسياسي، في كل ما يمس مبررات قيامها، الاجتماعية والوطنية.
… ومع ذلك، تحية للسادس عشر من أيلول، ولكل الرجال الذين أصروا على أن يكون لبنانهم وطناً… لا مجمع طوائفيات.

السابق
وهاب: أي محاولة لضرب الجيش السوري تحت ستار محاربة الإرهاب ستشعل كل المنطقة
التالي
طرابلس مجدداً في فم «الخلافة»… وفتية يبايعون وينتحرون