طرابلس مجدداً في فم «الخلافة»… وفتية يبايعون وينتحرون

بلال ميقاتي هل هو ذبّاح تنظيم «داعش» الذي ذبح الجنديَّيْن اللبنانيَّيْن؟ أم أنه ابن عمه عمر؟ صحيح أن الأخير عاد ونفى أن يكون هو من أقدم على الذبح بيده، لكنه أكد في الشريط المصور ذاته أنه عضو في المجموعة التي نفّذت عمليَّتَي الذبح. وعمر الذي التحق مع والده وابن عمه وعدد من أبناء مدينته طرابلس بمجموعة «داعش» المتمركزة في جرود عرسال، عمره 18 سنة، فيما يؤكد كثيرون من الطرابلسيين أن والده أحمد هو «أمير» الجماعة.

ويجزُم عدد من الناشطين الإسلاميين في طرابلس بأن قرار ذبح الجنديَّيْن صدر عن قيادة التنظيم في مدينة الرقة السورية، ووصل الى المجموعة الطرابلسية نظراً إلى حداثة انتماء القيادة السورية لـ «داعش» في جرود عرسال، إلى التنظيم. فمجموعة «داعش» في القلمون كانت لأشهر قليلة انقضت كتيبة عادية في «الجيش الحر»، وأعلنت مبايعتها «داعش» لحاجتها إلى التسليح والتمويل، أما المجموعة الطرابلسية المقاتلة معها، فاختُبِرت أكثر، وشعرت القيادة بـ «تماسكها والتزامها» أكثر.

ويبدو أن لتكليف المجموعة بذبح جنود لبنانيين وظيفة أخرى، كما يقول متابعون لأخبار المجموعة في الجرود. فتنظيم «داعش» يريد دماً لبنانياً مراقاً بيد لبنانية. ويريد أن يؤسس لطَقْسٍ لبناني في الذبح، إذ يساعده في توسيع دائرة عنفه ليشمل المناطق التي جاء منها الذبّاح والذَبيح.

ولكن، ليس هذا مظهر الدم الوحيد في المشهد اللبناني، فقد شهدت المناطق الشمالية اللبنانية في غمرة الاحتقان الطائفي والمذهبي، «فزعة» كبيرة أفضت إلى التحاق عشرات من الشبان بتنظيم «داعش» في سوريا والعراق. وخلال الشهرين الفائتين نفَّذ ثلاثة فتية لبنانيين عمليات انتحارية في العراق، ويقول الفتية إنهم توجهوا للقتال هناك رداً على قتال «حزب الله» الى جانب النظام السوري. وفي هذا الكلام إفصاح عن حرب أهلية لبنانية… على الأراضي السورية والعراقية.

طرابلس (شمال لبنان) – حازم الأمين
في الأشهر الأخيرة التي سبقت مغادرته إلى العراق ليلتحق بـ «داعش» في شهر نيسان (ابريل) الماضي، لاحظت والدة خالد الحاج (17 عاماً)، الفتى اللبناني الطرابلسي المقيم في خان العطارين وسط المدينة، أنه راح يتأخر في العودة إلى المنزل. وعندما سألته عن سبب تأخره قال أنه يمضي وقتاً إضافياً مع الفتية الساهرين عند ساحة التربيعة التي تربط وسط المدينة بمنطقة أبي سمرا، هناك عند أسفل قلعة طرابلس. وذات يوم تعقبت الأم ابنها ليلاً، ووجدته فعلاً ساهراً مع فتية الحي عند تلك الساحة.

بعد أسابيع من تعقبها خالد، غادر الفتى إلى العراق بحراً عبر تركيا ومنها إلى مدينة الرقة السورية، حيث تولت هناك «داعش» إرساله إلى بغداد. وبعد أشهر أمضاها في العاصمة العراقية اتصل خلالها بوالدته مُطمئناً ومطمئناً، رن هاتف الوالدة ولم يكن المُتكلم خالداً، انما شخص أبلغ الأم أن ابنها نفذ عملية انتحارية في بغداد.

تحرص «داعش»، وقبلها «القاعدة» على إبلاغ الأهل بنبأ مقتل أبنائهم. فما جرى مع أم خالد يشبه ما جرى مع آلاف الأمهات ممن «خرج» أبناؤهم لـ»الجهاد». لكن أم خالد من بين قليلات قررن أن يتكلمن، وأن يقلن أن ثمة من غرر بإبنهن، وأنهن كن يرغبن به حياً لا «شهيداً»، وأن غولاً كبيراً بدأ يلتهم فتية الحي فيرسلهم تارة إلى العراق وتارة إلى سورية.

أم خالد غير سعيدة بصور ابنها الملصقة على جدران أزقة وسط المدينة، فعلى جهاز هاتفها صور لخالد الحي وغير «الشهيد». صور له معها، وأخرى يظهر فيها مبتسماً. لا تريده أيقونة الحي، بل ابناً عادياً على قيد الحياة.

نداء «الخليفة»

لكن طرابلس تشهد هذه الأيام مرحلة مختلفة تماماً في علاقتها بـ»الجهاد»، فالمدينة كشفت لنفسها عن قابلية استثنائية وغير مسبوقة على الاستجابة لنداء «الخليفة». في الأشهر القليلة الماضية التحق عشرات من أبناء الأحزمة الفقيرة في المدينة بتنظيم «الدولة»، وقليلون من بينهم التحقوا بـ»جبهة النصرة» في سورية. حتى الآن سُجل من بين «المهاجرين الطرابلسيين» ثلاثة انتحاريين نفذوا عمليات في العراق، وسجل أيضاً بروز فتوات ومفتين في تنظيم «الدولة» هم ممن غادروا طرابلس في الأشهر الأخيرة.

«الفزعة» الطرابلسية الأخيرة، حملت معها مؤشرات مقلقة فعلاً، ذاك أن «المهاجرين» أبدوا قابلية على العنف لم تعهدها بهم المدينة. ذهول الطرابلسيين حيال مشاهدتهم عبر «يو تيوب» فتية يعرفونهم جيداً، وهم ينفذون مهاماً «داعشية» من بينها الذبح والإفتاء بالذبح، يشبه على ما تقول سيدة من المدينة ذهولهم عندما حولت حركة التوحيد الإسلامية المدينة إلى «إمارة» في ثمانينات القرن الماضي، لكن ذهولهم في ذلك الوقت بقي ذهولاً ولم يتحول فعلاً، لا بل، تقول السيدة، أنه تحول قبولاً، ولاحقاً صار طقساً، فبقي الطرابلسيون ملتزمين ما فرضته «الإمارة» في حينها، لجهة وقف أعمالهم يوم الجمعة، إلى ما بعد تفكك «الإمارة».

من سوق العطارين لوحده غادر أكثر من 20 شاباً وفتى، معظمهم التحق بـ «داعش» في العراق أو سورية، وقليلون التحقوا بـ «جبهة النصرة». ويبدو أن ثمة ملامح لجيل «جهادي» جديد، هو بمعظمه خارج المراقبة الأمنية والإجتماعية. فكثيراً ما تسمع في أزقة المدينة عن فتية لم يكن شيئاً فيهم يدل على احتمالات التحاقهم بـ «داعش». لم يكونوا يوماً سلفيين، ولم تزد مساهماتهم المسجدية عن متوسط مساهمة غيرهم من الفتية، لا بل أن بعضهم «هاجر» قبل أن تطأ قدمه عتبة مسجد.

الداعية السلفي الشيخ حسن الشهال، وهو أحد وجوه السلفية العلمية غير العنفية في لبنان، وصاحب معهد الدعوى والإرشاد في طرابلس، أعاد أسباب التحاق ابن شقيقه شاكر (21 سنة) بـ»الدولة الإسلامية» ومغادرته إلى مدينة الرقة السورية قبل أشهر قليلة إلى «واقعة إحباط» أصابت الفتى. فهو كان على وشك الزواج، وجهز منزله لهذه الخطوة، إلا أنه اختلف مع والد خطيبته وفسخ الأخير الخطوبة، فغادر الشاب إلى الرقة.

شاكر ظهر في تسجيلات من الرقة يكشف فيها أن تنظيم «داعش» عينه قاضياً، ذاك أن الفتى طالب في معهد شرعي، وهو أنهى فيه المرحلة المدرسية. عمه الشيخ حسن ينفي ما يتناقله طرابلسيون عن أن شاكر يعمل مفتياً في الرقة، ويقول: « أنا أعرفه، واستغرب ما يُقال عن أنه مفتٍ. كان يُساعدنا هنا في هذا المعهد، وله حصة في المعهد كونه وريث والده. درس هنا ووصل الى نهاية المرحلة الثانوية الشرعية، ولم يدخل إلى الجامعة، وتحصيله الشرعي لا يؤهله لأن يكون مفتياً». ويشير الشهال إلى أن «تعظيم شأن شاكر عبر الإشاعات يستهدف إلحاق الأذى به وبالعائلة».

ولطالما شهدت معاهد التعليم الشرعي في طرابلس والشمال حالات «انشقاق» طلاب عن المنهج غير العنفي الذي يعتمده أصحاب المعاهد من شيوخ السلفية العلمية، والتحاق بالسلفية القتالية وبنماذجها الجيلية. لا سيما وأن السلفية، حتى بشقها العلمي غير العنفي لا تستطيع الصمود أمام إغراء «التغيير بالسيف» بعد إخفاقها بإحداثه في اللسان وفي الدعوى. فعند سؤال الشيخ حسن عما إذا كان أبن أخيه شاكر على منهجه، لا سيما وأنه كان تلميذاً في المعهد الذي يديره، فقال: «لو كان على منهجي لما غادر طرابلس». لكن يبدو أن إعلان أبو بكر البغدادي الخلافة لفَتَ السلفية العلمية غير العنفية وخاطب فيها «حلماً قديماً». الشهال يقول: « أنا الآن على الحياد في موضوع داعش. لا أمدح ولا أذم حتى أعرف الحقيقة بنفسي»، ويشير الى أنه «عندما زالت الخلافة شعرت الأمة بالمرارة. وعندما طرحت داعش قضية الخلافة دغدغت مشاعر الكثيرين من شبان الأمة».

مئات المقاتلين

تتفاوت التقديرات لأعداد الشبان الذين غادروا طرابلس منذ شهر نيسان الماضي وحتى اليوم، والمتوجهين لـ»الجهاد». فبين قائلاً أن عددهم لا يتجاوز المئتين، وقائل بأنه يزيد عن أربعمئة، يحسم الجميع أن «الخروج» ما زال مستمراً، عبر تركيا لمن لا مذكرات توقيف بحقه، ويمكنه المغادرة بشكل قانوني، وعبر بلدة عرسال البقاعية لمن هم مطلوبون من الأجهزة الأمنية والقضائية. ومن الصعب على متعقب هذه الظاهرة في عاصمة الشمال الوصول إلى خيوط حول الشبكات التي تتولى الصلة بين «داعش» و»النصرة» وبين هؤلاء. الشبان والفتية يُغادرون من دون ضجيج كبير. فأم خالد حاولت تقصي الطرق التي سلكها ابنها حتى بلغ به الأمر للمغادرة. تقول أن صديقاً جديداً طرأ على حياة خالد، هو هشام الحج (20 عاماً) من منطقة أبو سمرا وكان يبيع الكعك على عربة في سوق العطارين، وكان خالد يلازمه ليلاً نهاراً قبل شهرين من مغادرتهما معاً إلى العراق. وخالد الحج (أبو طلحة) نفذ بدوره عملية انتحارية في بغداد ونعته «داعش» في شريط مصور.

وأم خالد التي تُحمّل الدولة اللبنانية مسؤولية اضطهاد الشباب في منطقتها و»سوقهم الى السجون وإذلالهم مما يدفعهم للمغادرة وللالتحاق بداعش وغيرها»، ترى أيضاً أن «مشايخ وأئمة مساجد يتولون غسل عقول الشباب». وخالد الذي كان يتردد على مساجد في محيط منزله وفي منطقة القبة كان يعمل في الفترة التي سبقت ذهابه إلى العراق في مكتبة الشيخ ع.ه، وتنفي أم خالد ما تردد في الحي أن الشيخ هو من أرسله إلى العراق. تقول: «الشيخ ع.ه هو من أهل الخير وهو من ربى علي منذ صغره، وهو يساعدنا ولا يمكن أن أن يتسبب لخالد بأذى». وقال رجل من أبناء الحي، طلب عدم ذكر اسمه، أن نجل الشيخ ع.ه هو من أرسل خالد إلى العراق، وأن الأخير متوارِ عن الأنظار منذ أشهر طويلة لأنه مطلوب إلى الأجهزة الأمنية اللبنانية، وهناك في الحي من يقول أنه في سورية.

الطريق التركية

تقصي دروب «الهجرة إلى داعش»، في طرابلس لا يبدو مهمة معقدة، فالمدينة تضخ ما لا يُحصى من المعلومات المفضية إلى هذه الدروب، لا سيما الدروب التي اعتمدت في الأشهر الأخيرة. معادلات «الهجرة» واضحة، فمن صدر بحقه مذكرة توقيف عليه أن «يهاجر» عبر جرود عرسال، ومن سجله الأمني نظيف عليه أن يُغادر عبر تركيا بحراً بسبب انخفاض كلفة السفر، وهذا التوزيع يملي توزيعاً موازياً، ذاك أن من يغادر عبر تركيا يصل حكماً إلى معسكرات «داعش» في الرقة، بينما من «يُهاجر» عبر جرود عرسال فثمة خيار آخر متاح هناك هو الالتحاق بـ»جبهة النصرة»، إلى جانب خيار «داعش» أيضاً، التي يُفضلها الكثير من الفتية في هذه الأحياء الفقيرة. كما يشكل هذا التوزيع مؤشراً آخر، فـ»المهاجرون» عبر تركيا إلى سورية، هم حكماً من غير المعروفين لدى الأجهزة الأمنية اللبنانية، وهم من «الجيل الجهادي» الجديد ممن لم يُتموا سنواتهم العشرين بعد، وهو عمر «الانتحاريين» عموماً، وممن يسهل على «داعش» تكليفهم بهذه المهمة، ولهذا يتوقع شيخ طرابلسي مزيداً من العمليات الانتحارية التي يُنفذها طرابلسيون في العراق وفي سورية.

لا يشعر المتجول في الأحياء الفقيرة لطرابلس أن «المهاجرين» اقترفوا بتوجههم إلى سورية أو إلى العراق فعلاً خرجوا فيه عما هو مجمع عليه في هذه الأحياء. فالمشهد العام في هذه المناطق الشعبية منسجم مع فعلة خروج هؤلاء لـ»الجهاد». صور الفتية الانتحاريين منتصبة على مداخل الأزقة تُزينها أسماؤهم الجديدة التي منحتهم إياها «داعش». لا بل أن أهلهم عادوا وتبنوا هذه الأسماء وقبلوا بتلك الأسماء التي سمعوها من أشرطة الفيديو التي ظهر فيها أبناؤهم. وحدها أم خالد ما زالت متمسكة باسم ابنها الذي أعطته هي إياه، ولم تقبل بإسم «أبو هاجر» الذي أُطلق عليه في شريط الفيديو، لكنها عندما أرادت أن تتحدث عن صديقه الجديد هشام الحج، سمّته «أبو طلحة»، وهو الاسم الذي اعتمده في شريط الفيديو أيضاً.

وينتاب المُتجول في أسواق طرابلس القديمة والفقيرة وفي أحيائها شعور بنوع من الابتعاد والانفصال عن المشهد اللبناني العام. هنا ما زالت صور صدام حسين منتصبة، وإلى جانب الأناشيد الدينية تصدح بسطات بيع الـ «سي دي» بأصوات المطربين الجدد. لا أثر كبيراً للنقاب، وشقيقات «المهاجرين إلى داعش» لا أثر على هيئاتهن لغير حجاب قليل الإحكام. وهنا أيضاً تمكن ملاحظة أن «داعش» هو نوع من احتقان مذهبي، وليس بنية تدينية واعتقادية استثنائية.

لكن الانفصال عن المشهد اللبناني لا يقتصر على بعده المشهدي هنا، فالفقر هنا مؤَسس ومنهجي، وله أيضاً قاموس ولغة. وهذا الأمر، وان كان غير جديد، إلا أن له في مناسبة تقصي ظاهرة الانتحاريين والـ»جهاديين» موقع ومهمة، فأنت في ظله حيال لغة تنطوي على بؤس غائر. ليس فقراً من ذلك النوع الذي يسود الضواحي والأحزمة الناشئة حول المدن. أنه فقر المُدن نفسها، وهو أحد وتائر الحياة، فلا تستقيم طرابلس على نحو ما هي اليوم من دون فقر هؤلاء. ويقول أبو أحمد، وهو بائع قهوة متجول في أسواق طرابلس، و»جهادي» سابق أقلع عن «الجهاد» بفعل تقدمه في العمر: «أعمال حزب الله في سورية هي ما أشعل قلوب الشباب بالجهاد… أنا أمضيت في السجن في سورية 4 سنوات، وأمضيت مثلها في السجن اللبناني. كانت تهمتي عند السوريين أنني في حركة التوحيد الاسلامية، وتهمتي عند الجيش اللبناني أنني فجرت محلات لبيع الخمرة. لست نادماً على ما فعلت. أنا اليوم أريد أن أعلم أبنائي. لا أريد لأبني أن يحمل زوج مصبات ويبيع قهوة. إبني الصغير سيكون جهادياً، فالفتى قلبه حاضر ولا يفوته اشتباك». يتقاضى أبو أحمد مساعدة شهرية من أحد المؤسسات الاجتماعية التي يرعاها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، ويقول أن الأخير هو السياسي الوحيد في المدينة الذي لا يدفع أموالاً للمسلحين.

السابق
مقاومتان
التالي
ولايتي وبلامبلي اكدا ضرورة حل الازمة الرئاسية بلبنان