’فوضى خلاّقة’ في البرلمان: المطالب أولاً!

كان لافتاً تدحرج كرة المطالب المعيشية والاجتماعية، على أحقيتها، بهذا الشكل وبهذة الوتيرة المتسارعة والتوقيت الدقيق. فحماسة رئيس مجلس النواب نبيه برّي إلى فتح أبواب ساحة النجمة أمام جلسات تشريعية متتالية، فيما كانت الأنظار تتجه إلى الزمان الذي سيحدّده لجلسة الانتخابات الرئاسية بعد بدء المهلة الدستورية للاستحقاق في 25 آذار الماضي، شكلت «ضربة معلّم» سياسية، بحيث نجح بري في نقل المشهد كلياً من حراك رئاسي وتسابق مرشحين على الاستحقاق، ومطالبات وضغوطات مسيحية لتحديد الجلسة، إلى مشهد «فوضى خلاقة بانضباطيتها» من البوابة المعيشية – المطلبية، يُحقق الهدف المرجو منه في حرف الأنظار عن الاستحقاق بملفات متفجرة من دون الوصول إلى حدّ فلتان الساحة الكلي، على غرار مشهد الدواليب المشتعلة الذي أُعد بإتقان في 6 أيار 1992 للإطاحة بحكومة الرئيس عمر كرامي. فالهدف  الراهن يتمثل بدفع الاستحقاق الرئاسي إلى المستوى الثاني من الاهتمام بما يؤدي إلى تقطيع الوقت الضائع بانتظار بلورة المنحى الذي سترسو عليه العلاقة السعودية – الإيرانية، في ما خص ملفات المنطقة، ومن ضمنها الملف اللبناني الذي لا يشتمل على استحقاق الرئاسة الأولى بل أيضاً على رئاسة الحكومة وقانون الانتخابات النيابية، وإن كان البعض يُدرج الاتجاهات التي ستحكم الاتفاق النهائي حول الملف النووي الإيراني في سياق المحطات التي ستنعكس آثارها على موازين القوى في المنطقة وتالياً على الاستحقاقات الإقليمية واللبنانية.
ليس ثمة وهم لدى القوى السياسية، على اختلاف انتماءاتها، من أن الاستحقاق الرئاسي بموازين القوى الراهنة يتطلب تسوية  متوازية بين ما هو داخلي وما هو إقليمي. فكلا العاملين متداخلان، غير أن اقتناعاً يسود تلك القوى بأن الهامش الداخلي في الاستحقاق الرئاسي اليوم مُتاح بشكل أكبر من سابقاته، الأمر الذي يدفع بفريقي الصراع إلى العمل على خلق وقائع تساعد على تحسين شروطه حيال شخص الرئيس ومواصفاته والمهام المطلوبة منه.  وفي رأي بعض مكونات قوى الرابع عشر من آذار أن «حزب الله» ينطلق من هذا الاقتناع متكئاً على قوة سلاحه ومراهنته على ما يقيّمه انتصاراً في حربه في سوريا ليضع نفسه في مصاف «صانع الرؤساء في لبنان»، ما يتطلب خطة مواجهة حقيقية من هذه القوى تفرض من خلالها موقعها في صنع الرئيس، أو على الأقل رفع سقفها لتكون في موقف قوي لتحقيق أقصى ما يمكنها للإتيان برئيس قادر على مواجهة التحدّيات وإعادة الاعتبار إلى مفهوم الدولة والمؤسسات عندما يحين أوان التسوية.
من هنا، يتوجّس سياسيون في فريق 14 آذار من تلك  الهجمة المطلبية الآخذة بالتنامي والتوسع لتشمل مختلف القطاعات، في وقت يدق الخبراء الاقتصاديون، وفق دراسات علمية، ناقوس الخطر من تحميل الخزينة أعباءً مالية من دون تعمّق فعليّ، وحسابات دقيقة لما يمكن أن تؤتي به الموارد المقترحة والمقررة لتمويل تلك الأعباء المترتبة عن إقرار سلسلة الرتب والرواتب في القطاع العام والهيئات التaعليمية وسائر القطاعات، ذلك أن البحث في الأرقام المالية لا بد من أن يعكس الواقع السياسي والأمني والاقتصادي وواقع البلد في علاقاته الداخلية والخارجية وحال إداراته وما يصيب بعض مؤسساتها من استشراء الفساد. وإغفال تلك العوامل سيؤدي إلى مسار انحداري بالبلاد، وإلى ضرب مناعة النظام اللبناني وما تبقى من اقتصاده، وسيؤول في نهاية المطاف إلى ضرب قواعد الحكم وفكفكة النظام السياسي وعزل لبنان اقتصادياً عن محيطه العربي.
تلك المخاوف معطوفة على الخشية من المحاولات القائمة لـ «تسخير» المؤسسات الأمنية، ولا سيما الجيش، في تطويق مناطق معينة ذات لون مذهبي وسياسي يزيد من ضبابية المشهد، ومن احتمالات الانهيار الكبير الذي سيضع لبنان أمام خيارات محددة، بحيث يتم عندها فرض نمط معين للحكم والحاكم، وفق الصورة التي يرسمها «حزب الله» ورعاته الإقليميون، ما يُنتج إطباقاً كاملاً على البلاد وإخضاعاً للقوى المناهضة لهذا الفريق.
إزاء تلك الصورة السوداوية التي تُناقض التوقعات باحتمالات انفراجات في المناخات إقليمية، يرتفع منسوب الحديث عن فراغ سيصيب الرئاسة الأولى على أقله للفترة الزمنية الفاصلة عن إنجاز الاستحقاقات الإقليمية، والتي ستبدأ نتائجها بالظهور بدءاً من العراق مع الانتخابات البرلمانية وما ستفرزه من موازين قوى، مروراً بالانتخابات السورية وصولاً إلى نتائج المفاوضات مع إيران حول الاتفاق النهائي في الملف النووي.
وبدأ في الكواليس السياسية تداول «سيناريو الفراغ»، وقوامه دعوة رئيس المجلس إلى جلسة لانتخاب الرئيس، فيتأمن النصاب من دون أن يحظى أي من المرشحين بغالبية ثلثي الأصوات، ومن دون أن يحصل أي منهم على النصف زائداً واحداً، فتُرفع الجلسة للتوافق الذي لن يتحقق في المهلة الدستورية، فيتحقق الفراغ المطلوب، الذي سيُدخل فريقي الصراع داخلياً وإقليمياً في لعبة «عض الأصابع» وصولاً إلى التسوية التي تختلف في الشكل والمضمون عن تلك التي أفضت إلى ولادة الحكومة السلامية وما رافقها من انفراجات!

السابق
السوريون.. أكثر الشعوب حزناً
التالي
تنظيم أنصار الله الوثيق الصلة بحزب الله يحكم قبضته على مخيم «المية ومية»