إنقاذ التسعينات اللبنانية

ماذا جرى خلال تسعينات القرن الماضي؟ يلح هذا الإستفهام على الجيل، الذي نشأ أو وُلد في هذه الفترة اللبنانية، خصوصاً أن بدايتها، كانت مطحونة، بفعل الأعمال العسكرية، المتوقفة إثر إتفاق الطائف، مثلما أن نهايتها، كانت مهجورة، بسبب إستعجال الإنتقال إلى الألفية الثالثة. بالتالي، ظهرت التسعينات كأنها ورشة الخروج من الحرب، أو بالأحرى الكف عنها، إذ استأنف اللبنانيون ما انقطع العام 1975، وسحبوه نحو زمنهم، الذي حضر بالهدنة المعقودة بينهم، وغاب بسبب ذاكرته المثقوبة. علماً، أن هذه الذاكرة، بدت، بعد خمسة عشر عاماً، أي في العام 2005، كأنها مخزن أوهام متشظية، بحيث أن حامليها، عادوا إلى اقتتالهم العسكري المتفرق، فانقلبت غاية الورشة، من الخروج من الحرب إلى دخولها من جديد.

من هنا، كتب هاني نعيم رسالة إلى صديقته سهى عواد، يصف فيها التسعينات اللبنانية بـ”الحقبة الضائعة”، نتيجة وقوعها بين حربين، “الأولى انتهت، والثانية نركض إليها كطفل أحب فكرة إحراق أصابعه بالنار”. عندها، بدأت عواد ونعيم بتبادل الرسائل، التي، من خلالها، يحاولان استرجاع تلك الفترة، والوقوف على ذكرياتها المتفرقة، ناشرين إياها على مدونة هاني، ” هنيبعل، التسكع في الأرجاء”.

استند الإثنان إلى سيرهم الشخصية، المتضمنة لاجتماعهم مع العائلة، والتنقل بين المناطق، فضلاً عن اليوميات وتفاصيل عيشها. وقد يكون فعل التذكر الرسائلي هذا، بمثابة طريق ضرورية لتجميع أحداث التسعينات، كي لا تبقى الحقبة مفقودة، ومن أجل أن تتألف صورتها ذاتياً، أي من ملاحظات ومشاهدات الجيل، الذي أدركها على أنها زمنه الخاص، حيث لم يكن النضوج بائناً في أفقه بعد.

تتذكر عواد، في رسالتها الأولى، كيف كانت تشاهد فيديو كليب أغنية “مين حبيبي أنا” لنوال الزغبي ووائل كفوري، بينما كانت أمها تسرح لها شعرها بمشط أحمر كبير، محضّرة ً إياها للذهاب إلى بيروت. كانت المرة الأولى، التي تخرج فيها من “الغيتو المسيحي” نحو العاصمة، التي وصلوا إلى “ساحة شهدائها”، ووقفوا بالقرب من تمثالها المهشم. حينها، “اقترب رجل منا وأراد أن يأخذ صورتنا بكاميرا بولارويد فورية. اقتربنا من بعضنا وصوّر”، ثم بدأ يلوِّح بالصورة، كي يتشكل مشهدها، من ألوان ووجوه، وقد حصل ذاك بعد خمسة دقائق، فنتيجة التلويح، تأرشفت بيروت في صورة، غادرتها عواد فوراً، قبل أن ترجع إليها بعد ثماني سنوات من صيف 1994. ومن هذا الفصل، ينطلق نعيم للرد على رسالة عواد، رابطاً بين “تمثال الشهداء” وشخص جدّه، ” لا أعرف لماذا كان تمثال الشهداء مرتبط دائماً بجدّي، فهو ليس شهيداً، رغم أنّه خاض حروباً كثيرة. لم يمت أثناء الحروب، ولكن هذا لا يجعله بطلاً”.

يسترجع الصديقان ذكرياتهم، التي لا ترتبط بدمار التسعينات البيروتية فحسب، بل تتعداها إلى شؤون شخصية، مثلما هي الحال في حديثهم عن الموسيقى في تلك الفترة. فتكتب عواد عن كاسيتات شانتال غويا، التي كانت الأشرطة الوحيدة في المنزل، بالإضافة إلى الراديو المطبخي، الذي تعطل، قبل أن يصلحه الجار سمعان، معيداً إياه إلى العائلة، وفي داخله “كاسيت غريب”، ستستمع عواد إليه، وتتأثر ببعض أغنياته. وقتها، كان نعيم يستمع إلى فيروز، وزياد الرحباني، خلال “المشاوير” في سيارة والده، متوجهاً إلى المدرسة، أو نحو الجبل، مكتشفاً “عاشق الساكس”، سمير سرور، و”البيتلز”، والـ”ABBA”، وغيرها من الموسيقى، التي “كانت خلطة غريبة، تشبه ازدحام الهويّات في بيروت والجبل”.

لم يكتفِ نعيم وعواد بتأليف مرحلة التسعينات من خلال تجاربهم المدوَّنة فحسب، بل أنهما قررا دعوة الآخرين إلى التذكر عبر اعتماد عبارة “بالتسعينات” كهاشتاغ تغريدي على موقع تويتر. تالياً، بدأ المستخدمون باستعادة “الحقبة الضائعة”، ساعين إلى إنقاذها من الفقدان. فغردت مالك، أنه #بالتسعينات، كانت المرة الأولى، التي يزور فيها بيروت، معتقدا ً أن منطقة الكولا تعني مصنع الكوكاكولا، كما كتب باسل، “بالتسعينات كان في ماريا مرسيدس لأجلكم تعمل”، وكتب سامر، أن الـS.L.CHI، كان ما في متلو”. أما أحمد فكتب “بالتسعينات ما إلك إلا هيفا”، وغرد وليم، “بالتسعينات كان اللي عندو تلفون هاندي اكتر زلمي متطور بالعالم”، وتذكرت جولي أن “بالتسعينات كانت أغنية كاظم الساهر، “لو جمعوا لوحات العالم حتى الموناليزا”، ضاربة بالسوق” إلخ.

كل ذلك، جرى خلال التسعينات، التي يحاول النشاط التذكري إنقاذها من الضياع، لا سيما أن البلاد في حاجة ملحة إلى ذاكرة ما، تتكئ عليها كي يصير لها الحق في الحديث عن زمن ما بعد الطائف، الذي بدا منتمياً إلى الجزء الأول من السبعينات. كما لو أن التسعينات لم تكن موجودة عند توقف الحرب العسكرية، إذ أن البلاد قد عادت إلى الفترة السابقة على 13 نيسان 1975، لكنها، لم تستأنفها على حالها الماضية، بل استلمتها محطمة ً، لا ركن فيها على ركن، ولا ذاكرة فيها على ذاكرة. في هذا السياق، تستوي رسائل نعيم وعواد على دور آخر، أي تحرير التسعينات من السبعينات المدمرة، وتأليفها كحقبة قائمة بذاتها، مغايرة لما انقطع في الماضي، ولما عاد منه في المستقبل، ذاك، حتى لا تظل هذه المرحلة فرصة البلد، الذي لم يستطع تدارك فواتها.

السابق
مصر تجلي سفارتها في ليبيا بعد خطف 5 من ديبلوماسييها
التالي
التكفير بالفتوى .. والتكفير بالدستور