الجنوب: نيام يموتون… ولا ينتبهون

علي الأمين

منبر الموت يعلو ويعلو ويتنقل بين الناس ناصبا شواهده بلا توقف وبلا ملل

موسم الهجرة الى الشمال لم يتوقف من الجنوب. منذ زمن بعيد وقوافل المهاجرين والمهجرين لا تتوقف. فما تعجز عنه الحروب ولم يطله الاحتلال، تنجزه البطالة وتراجع فرص العيش الكريم.

هكذا دواليك منذ عقود. لم يغير واقع التخلص من المحتل في قرى الجنوب شيئاً يذكر. فقط تلك الشواهد على مهاجرين شدّهم الحنين الى مسقط الرأس، فشيدوا بيوتا وقصوراً نبتت في العقد الاخير. لكنها، وإن أشبعت حنين بُنَاتِها، إلا أنّ معظمها أصبح شاهداً صارخاً على جرح الهجرة النازف من دون عودة.

لعله الخريف، وذاك الاصفر الذي يغزو الالوان، ويحول المشهد الى كآبة تجتاج كل بشاشة ونضارة. ربما هو شعور طفولي لم يستطع الشيب كتم حضوره، او الاحساس الذي ينفجر حين يودع الصيف ايامه ويتقدم الخريف، ايذاناً بالعودة الى سجن المدرسة. او هي ربما كانت ايام لطالما اتسمت بمشهد الوداع، يتكرر على من استوطنوا القلوب من أحبة وأصدقاء، ولأمكنة حفرت في الجسد وفي الروح فرحا بكراً، لم يستطع جبل الاحزان ان يبدده.

لكن المشهد كئيب. فثمة عويل مكتوم في تلك القرى الممتدة على الحدود الجنوبية، الشاحب وجهها، كأنما هي في انتظار ان تنجز حفرة موتها الأخير. ذلك الموت الصادق، الذي لا لبس فيه ولا رادّ له.

مدينة بنت جبيل، التي استعادت مبانيها بأخرى “أجمل مما كانت”، لم تستطع ان تستعيد اهلها الذين ابتلعتهم بحورالهجرة والتهجير، وصارت مدينتهم ليست أكثر من “المثوى الأخير”. حيث لا مساحة في المدينة الهادئة الا للسكون القاتل.. والأمن.

لا رصاص يعكر صفوها. لا قذائف اسرائيلية ولا حتى قصيدة. فمنذ العام 2006 لم يسمع من بقوا فيها قرقعة سلاح، لكنها تبدو حزينة! لعله الخريف، او ذاك الاصفر الذي يقتحم نضارة البشر وخضرة الشجر. اوربما هي البيوت تعبر عن شوق سحيق لأصحابها، فتبثُ من حولها وحشةً وحزناً. وربما الذي بناها قد يشده الحنين اليها فيعود.
في تلك البلدات تعول الريح، ويُسمع صوت النسيم، فلا رصاص ولا خوف من حرب، ولا قتال، لكن الخوف مقيم! يستوطن الملامح. ربما خوف من انسحاب الحياة التدريجي، من تسلل الموت تدريجا مكانها ايضاً. لعلها تتآلف مع الموت. ذلك الذي ما عاد عدواً ولا كريهاً. اوَليس الموت انكفاء لدورة الحياة في الجسد، وتعطل الحواس، وانعدام القدرة على الحركة، توقف القلب عن النبض، والعقل عن التفكير والادراك والفعل؟

بلى. وثمة شيء من كل ذلك ظاهر للعيان أنّى توجّهت في الجنوب.

الخريف ايضاً هو ما يبعث على ذلك، او ربما الحياة تختفي كجرذ من وضوح النهار. جرذ يخاف الضوء لا لشيء الاّ لأنه يخاف الموت. لكأن الحياة مقيمة في الزوايا المعتمة، تحمي وجودها داخل الغرف المغلقة، مختبئة في الحزن المكتوم، في الاسئلة “الحرام”. اما ما تبقّى ساحات القرى والبلدات، تلك المنهمكة بأهم وظائفها اليوم، وقد تكون الوحيدة لديها منذ سنوات: استقبال الجثامين من ابنائها المحملين من الشمال، من بلاد الهجرة، او من الجبهات السورية.

هنا في الجنوب صار الموت عزاء ما تبقى من حياة. هو مساحة اللقاء الوحيده، فلا حياة خارجها ولا احتفاء الا بالراحلين. اما العويل فمكتوم: “لماذا يلاحقنا الموت او لماذا نلاحقه؟ لماذا تتحول القرى الى مجرد مقابر؟ مقابر آمنة؟ تدفن ابناءها الموتى بسكون بلاصراخ ولا ندّابين؟”

منبر الموت يعلو ويعلو ويتنقل بين الناس ناصبا شواهده بلا توقف وبلا ملل.

كأنه لا يكفي هذه القرى جرحها الفلسطيني، ولا ضريبة الدم التي دفعتها. كأنما نزف الدماء يجب الا يتوقف، واذا توقف، سننزفه حيثما تشاء شهوة الموت؟ كأنّ الحياة ليست الا رقصاً على لحن الموتى.

في الطريق الى بنت جبيل، وفي قلب المدينة المسكون بالغياب، تصير الحياة مرضا خبيثا يجري استئصاله، بالهجرة والموت، او انتظار استكمال نبش القبر الاخير.
ولا أحد ينتبه. حتّى الناس النيام “فإذا ماتوا انتبهوا”، حتّى هؤلاء، يموتون.. ولا ينتبهون.

السابق
نتنياهو: الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية شرط لتوقيع إتفاق السلام
التالي
الجيش السوري يسيطر على كافة القرى على طريق السلمية – حلب