بيت فيروز يقاوم العواصف…

 

في حي "زْقَاقْ البلاط" في بيروت ورش عمل وبناء ناشطة. أبنية تُشيّد حديثا كاسرة ما تبقى من البيوت التراثية. مع وصولك إلى الحي، "سيُلاقيك" ما تبقّى من القرميد الأحمر مكلِّلاً سطوح بعض الأبنية، ومنها منزل الطفولة للسيدة فيروز.

منذ إنشائه، لم يكن المنزل مستقلاً، بل كان جزءاً من مخافر للشرطة شيّدتها السلطات العثمانية في الأحياء الرئيسة من بيروت أواخر القرن التاسع عشر، وعُرفت وقتذاك باسم "الكركول العثماني". "مخفر الحرس" في "شارع أمين بيهم" يختلف عن المخافر الأخرى المتواجدة في المكان. المخفر هذا كان يتألف من مجموعة من المباني المطلة على فناء واسع، ويتألف القسم الجنوبي منه من بيتين يعلوهما قرميد أحمر، كانا يستعملان لإقامة الضباط العثمانيين.


في مطلع الثلاثينات سكنت عائلة حداد في الطبقة الأرضية من "مخفر الحرس"، الذي ترعرعت فيه نهاد حداد، التي عرفت في ما بعد باسم فيروز. أكثر من عشرين عاما قضتها السيدة فيروز في منزلها هذا. فيه "غرست" ذكريات الطفولة، قبل أن تغادر المكان نهائيا منتصف الخمسينات حين تزوجت من عاصي الرحباني. بعد ذلك أتت أيام الحرب فقطن مهجرون في المنزل ليسوده العبث والإهمال.


إهمالٌ في الحاضر

المنزل اليوم شبه مدمر. النباتات البرية تعشش في كل مكان. الحديد والخشب يتكوم في الفناء الخارجي. هنا حجارة مبعثرة، هناك أجزاء من قرميد محطم، وهنالك شبابيك وقناطر تقاوم قسوة الطبيعة بشمسها والمطر، ببرقها والرعد… وباختصار: نصف المنزل منهار والنصف الثاني يقاوم عواصف الزمان والإنسان، ولكن أين أصبحت إجراءات حماية المنزل؟ وماذا لو سقط مع استمرار أعمال البناء في ورش العمل والبناء المجاورة؟

يولي المجلس البلدي لمدينة بيروت، والقيمون على التراث اللبناني اهتماما بحماية "بيت فيروز" واستملاكه وترميمه وتحويله معلما ثقافيا وفنيا. ويقوم المنزل على العقارين 565 و567، وتبلغ مساحة الأول 430 متراً مربعاً والثاني 290 متراً مربعاً، ويتوزعان على 17 مالكاً.


و"لأن مدينة بيروت أصبحت غابة من الأبنية الخرسانيّة، وهي تمضي في التمدد مهددة ما تبقى من تلك التراثيّة فيها، وحيث أنه عُقد اتفاق بين مدينة بيروت ومدينة البندقية لدراسة الإرث المعماري في العاصمة اللبنانية المموّل من الاتحاد الأوروبي، والرامي إلى إيجاد السبل الكفيلة بحفظه وحمايته، ولمّا كانت الأبنية التراثية القائمة على العقارين 565 و567 تقع في إطار تلك الدراسة ويجدر المحافظة عليها فقد اتخذت بلدية بيروت القرار البلدي رقم 977 تاريخ 18/12/2008، القاضي باستملاك العقارين"…


هذا ما جاء في نص القرار البلدي لمدينة بيروت، ولكن أربع سنوات ويزيد مرت على إعلان المنفعة العامة على بيت الطفولة للسيدة فيروز ولم يتم استملاكه بعد، لا بل وإن الأعمال في ورش البناء المجاورة له تُسابق المعاملات الروتينية الإدارية التي تؤخر الاستملاك فأين أصبح الملف وما المعوقات أمامه؟


ويلفت رئيس المجلس البلدي لمدينة بيروت بلال حمد الى أن "الملف اليوم في يد محافظ بيروت لاتخاذ القرار بشأنه ولكن عدم وجود حكومة في البلاد يلعب دورا سلبيا"، لافتا إلى أن "رئيس البلدية لا يملك سلطة تنفيذية على الأرض، بل هي من صلاحيات محافظ بيروت". حمد أكد من جهة أخرى أنه "وضع حراساً بلديين على بيت فيروز لحمايته من أي اعتداء يمكن أن يتعرض له، ويتم حالياً إعداد خرائط الترميم، لتكون جاهزة عند توقيع مرسوم الاستملاك، لوضع دفتر الشروط وإطلاق المناقصة".


وأكد "السعي لتحويل منزل الطفولة للفنانة الكبيرة فيروز إلى متحف لتخليد أعمالها الرائدة والكبيرة، ومركز ثقافي يقصده اللبنانيون والزوار والسواح"، مضيفا أنه "سيتم البحث في كل هذه الأمور مع السيدة فيروز شخصيا، للوقوف على رأيها، عند الانتهاء من معاملات الاستملاك".


"مُدمنة فيروز"

اعتادت غالبية اللبنانيين الاستماع إلى صوت السيدة فيروز صبيحة كل يوم. "لا تشرق شمس بلا صوتها"، تقول نور، التي تصف نفسها بأنها "مدمنة فيروز"، ومن هنا يتبدى اهتمامها بكل ما يحافظ على "التراث الفيروزي"، ومن ضمنه منزلها. الأمر نفسه ينسحب على "سعدى" التي تتباهى باحتفاظها بألبومات نادرة للسيدة فيروز في سيارتها، و"الحفاظ على منزل الطفولة لسيدتي الجميلة، هو بمثابة المحافظة على بيتي الشخصي"، تقول. وما تسمعه من نور وسعدى تلاقي مثيلا له على لسان نادين غيث، وهي عضو في جمعية “save Beirut heritage” (الحفاظ على تراث بيروت).


نظرًا لانشغال لبنان بملفات داخلية وخارجية ترتب أوضاعا أمنية غير مستقرة تماما. كل ذلك يعطي الأولية لملفات على حساب أخرى، وهذا ما يقلق المهتمين بالتراث و"يُعزز القناعة بأن الدولة اللبنانية تهتم بالشؤون الآنية وتتجاهل أموراً مصيرية قد يعيها المسؤولون مع فوات الأوان، فيكون قد سقط التراث في فخ الأحداث الراهنة".

 

السابق
الميثاقية للتأسيس وليس للتعطيل
التالي
فوضى السلاح ثقافة لبنانية لا تبشر