الأغنية تتآمر أيضاً على المرأة اللبنانية

لنتخيل الحياة من دون امرأة. لنتخيلها فارغة من أم. من عاملة. من أخت. من قائدة. من زوجة. من ابنة. من خلاقة. من صديقة. من عشيقة ومن عاشقة. لنتخيل الوجود من دون طموحاتها وقوتها وقدراتها وأحلامها وحبها وغضبها. كم كان ليكون الكون عقيماً؟ قد يبدو هذا السيناريو عبثياً للوهلة الأولى، والسؤال مجانياً. لكنّ الفرق ضئيل في الواقع بين حياة من دون امرأة، وعالم مثل عالمنا، غالباً ما يهمشّها ويهمّش طاقاتها.

قصة انتهاك كيان المرأة ليست بالجديدة: كيف لا وهي في معظم الميثولوجيا الدينية محض "ضلع"، جزء من كلّ "يفوقها أهمية وقوة"؟ وها هي الضلع تصبح في الأزمنة الحديثة، خصوصا في ثقافتنا ومجتمعاتنا العربية، إما "ملحقا" وإما سلعة. إنه تطور أكثر من "منطقي"، بحسب المعايير البطريركية التي تسيّر حياتنا وقيمنا ورؤيتنا الى الوجود. أنّى نظرنا من حولنا، وإن من دون تعميم، هناك كل يوم نساء تُنتهك حقوقهنّ، يُعنَّفن، ويتم التعامل معهن بدونية، كي لا نقول باحتقار كامل. لا شك في ان بعض الأغاني اللبنانية باتت خلاّقة بدورها في فنون "التنكيل" بهنّ وإهانتهن. في ما يأتي جولة في بعض هذه "التحف" ونقيضاتها.
غالبية الأغاني تخاطب المرأة ببعدها الأنطولوجي. هذه تلامس روحها، وتلك جسدها. هذه تريدها قديسة، وتلك أداة. الشاعر السوري نزار قباني، الذي غنّى الفنان كاظم الساهر مجموعة كبيرة من قصائده، قد يبدو مجدّداً للبعض على مستوى الكتابة للمرأة، لكنه وقع هو بدوره، ما عدا بعض الاستثناءات الباهرة، في فخ "تأليهها" كموضوع: وهو نوع من التمييز الايجابي الذي لا يساعد حقاً في تغيير الصورة النمطية السائدة عنها في مجتمعاتنا.
الأغنية اللبنانية التي تُحاكي المرأة أو تصفها، تقع غالبا في هذا التنميط، أو في نقيضه. الذريعة عصر الانحطاط هذا، الذي أصبح الانحدار فيه أمراً عادياً، يتعايش معه الجمهور ويردّده كالآلة من غير نقد أو تعليل أو تحليل. الذريعة سهلة، أما الكفاح من أجل هدمها فيتطلب قوة وشجاعة وجرأة أدبية باتت ثقافتنا بعيدة عنها كل البعد. لسنا من بُناة أحكام القيمة أو من عشّاق التنظير والوعظ والتقويم. لكن أن يعمم بعض كتّاب الأغاني، الخاص على العام، والجزء على الكل، ويرفعوا التفاهة إلى مصاف العادي، فهذا ما لا يمكن التغاضي عنه مطلقاً.

"نحن ما عنّا بنات تتوظف بشهادتها"
ذاع صيت الفنان محمد اسكندر بسبب "نوعية" الأغاني "النسائية": "جمهورية قلبي"، "غرفة عمليات" وأخيراً "ضد العنف". ما رأي كاتبها فارس اسكندر؟ يرفض التهم التي ترميه بتسفيه المرأة في أغانيه: "هناك فارق بين المعنى الظاهر والمعنى الحقيقي المراد في الباطن". يقول إن التعمق في أمر ما هو غير قراءته بظاهره. يرى ان المجتمع اختلف بين الأمس واليوم، وما عادت تجدي في شيء "سياسة" النأي بالنفس عن قضاياه وملفاته الساخنة، لا سيما علاقة المرأة بالرجل. يقرّ لها بدور أساسي ووجود لا ينتزعه أحد منها، لكنه يصب جام غضبه على المجتمع الذي ينظر اليها كجسد شهواني. يرى ان من واجبه حمايتها، لأنه يحبها و"يخاف" عليها، ولو كان المجتمع مغايراً قليلاً عما هو عليه، لكان لا شك قال لها انطلقي. لا همّ إذا كانت الحماية من منظاره تساوي الخنق واحتقار القدرات وحشر المرأة في صفة الزوجة التي خُلقت فقط للاهتمام برجلها، وهو الذي يقول في "جمهورية قلبي": "ت تنفرض بقبل تشتغلي/ شو منعمل بجمالك؟/ شغلك قلبي وعاطفتي وحناني/ مش رح تفضي لأي شي تاني".
لكلٍّ الحرية في نسج اقتناعاته، يقول اسكندر، وهو مقتنع بما يقدمه، ومثله والده. هذا الاقتناع يشمل في رأيه فئة من النساء تطالب الرجل بحمايتها من الآخر، رجلاً أكان أم مجتمعاً. لذا، كان لا بد، وفق اسكندر، من كتابة "ضد العنف"، التي تنتقد تحوّل بعض الرجال نساء في الشكل والسلوك، "ما زاد المجتمع فساداً ورجساً من عمل الشيطان". يتساءل: "أين الجريمة إذ عبّرتُ عن رأي فئة كبيرة من المجتمع اللبناني، مقتنعة بأن المرأة يمكن ان تمارس دورها ووجودها وأنوثتها في منزلها، كي يبقى مكان للرجل والأسرة في حياتها؟". يرفض الانجرار الى قيم الغرب كالببغاوات، بحجة التطور، فيما النتيجة الملموسة مزيد من "انحلال القيم". يؤكد انه مع المرأة العاملة، "شرط ان يصحح المجتمع نظرته حيالها".

"يلاّ تضبضبي"
كتب عادل رفول أغنية "عم أسّس حالي" للفنان عامر زيان. المرأة هنا خائنة، ترى في حبيبها مصدراً للهو وتمضية الوقت، فيما هو يجهد لتأمين ضروريات الزواج في هذا الوضع المعيشي. وبما أنه عاجز عن تأمين متطلباتها، تستبدله بآخر. يعلم بالأمر، فيرفض مسامحتها: "ضبّي غراضك شو ما كنتي ما بيطلعلك فرصة ويلاّ تضبضبي". يقول رفول إنه كتب الأغنية دفاعاً عن المرأة وليس تسفيهاً لها. فكلمة "تضبضبي" شعبية تُستعمل في قريته الجنوبية مغدوشة، وتعني توضيب الحقائب ليس الاّ. توقع سيلاً من الانتقادات بسبب هذه الكلمة، الا انه آثر عدم حذفها لأنه كتبها بـ"نية صافية". يرى أنه يحاكي الشعب من طريق الكتابة بلغة "عامية وبسيطة"، شرط ألا ينحدر الكلام الى مستوى الابتذال الذي يظهر من خلال "الرسائل المبطنة ذات الايحاءات الجنسية التي تثير الغرائز بطريقة حيوانية غير منضبطة، أو بإثارة النعرات الدينية والمذهبية. أما التعبير عن موقف، فليس ابتذالاً، بل قضية". يؤكد ان الفن مرآة تعكس هواجس المجتمع بكل فئاته، ولا سيما الشباب، لأنهم النبض.

"الكفّ ملبّع ع خدّا"
ليس بعيداً من عامر زيان، غنّى ناجي الأسطا أغنية "كبرانة براسا" من كلمات منير أبو عساف، يدافع فيها عن الرجل من منطلق المحافظة على وجوده. المرأة تخون وتترك حبيبها بإيعاز ومباركة من أمها: "هيّ مش عرفانة حرام، شو ناطرها مع الأيام، خلّيها تغرق بدموعا، ترجع لعندي موجوعة، بكرا لما تغفى وتوعا، الكفّ ملبّع ع خدّا". الكفّ هنا، وفق الكاتب، هي كفّ الحياة وليست كفّ الرجل. يؤكد انه ضد تعنيف الانسان، أكان رجلاً أم امرأة، منتقداً عدم سماع أي صرخة عندما تغنّي احدى الفنانات بعنصرية ضد الرجل وتقول إنها ستحطم له رأسه، فيما "تقوم الدنيا ولا تقعد عند أول كلمة تتناول المرأة". عن "جمهورية قلبي"، إنها حالة حقيقية تضرب المجتمع، ويجب إلقاء الضوء عليها، لا سيما ان غالبية النساء العاملات في هذه الأيام ينسين الرجل والمنزل والأولاد، فتتفكك الأسرة وتتشتت أركانها. يربط "الضجة" التي ترافق صدور أي أغنية في هذا الشأن، باعتماد المبالغة عند كتابتها. لا يعني هذا انه ضد المبالغة في وصف الحالة العاطفية، فالشعر في رأيه لا يصل الا بعدد الصور والرموز والدلالات. لكنه ممن يفضلون تسمية الأشياء بأسمائها الصريحة أو عدم التلميح اليها من الأساس.

"بحبّ إنّو تشرشحني"
هناك أغنية عبر الـ YouTube حصدت آلاف المشاهدين: "حسّسني اني رخيصة" من كلمات شوندا ومو وغنائهما. الأغنية محض جنسية. في ظاهرها تصوير للمرأة على انها كائن مثير لغريزة الرجل، مليء بالإغراءات والابتذال، أما في باطنها، فتقول شوندا إنها عكس ذلك كلياً. آثرت التطرف في اختيار الكلمات، "فلكلٍّ طريقته في التعبير، ومن طريق المبالغة تصل الرسالة أسرع". تؤكد ان الاغنية بدأت "مسخرة"، ولم تتوقع لها الانتشار، وانها ضد الفن الهابط الذي يسفّه المرأة ويشيّئها. تتأسف لأن أحداً لم يرحمها، وترى ان "المحدودين" فقط هم من أخذوها بظاهرها وبنوا عليها أحكام قيمة. بعض مما تقوله الاغنية: "بحب إنّو تشرشحني، تخزّقني، تنتّفني، فكّ الزر وانسَ كل الهم، تفكّلي الصدرية، عذّبني وغلغل فيّي، وغلغل بقلبي، سلخني وقول شي مسبة".

"كوني مرا"
ماذا يقول الكاتب والملحّن والمغنّي مروان خوري، الذي يحاكي المرأة بإيجابية بعيداً من الأمراض النفسية المعروضة أعلاه؟ هو يعتبر الأمر اقتناعاً يتولد في سن مبكرة، حتى قبل مرحلة النضج. منذ نعومة أظفاره، يراقب خوري المرأة أماً تزرع فيه أنوثة الطبيعة وعطاءها. يرى المرأة كائناً عظيماً من المعيب ان يُبخس حقه في ظل المتغيرات التاريخية التي يعيشها العالم. يكتب ما يشعر به، ولأنه شعر بهذه الكلمات كتبها: "كل القصائد من حلا إيديكِ من دفا عينيكِ كتبتن وقلتن، هودي القصايد مش حكي يا روحي، هو لكي كلن". تلهمه المرأة وتبثّ الحياة في قلبه وقلمه. يرى فيها الشكل والمضمون. السبب والنتيجة. العلّة والمعلول. يرى فيها الأهل والأرض والتراب الذي تفوح منه رائحة زكية. لا يدّعي مروان خوري المثالية، لذا يرفض جمع النساء في كفّ واحدة. يرفض لعبة الإسقاط. يقول ان المرأة قد تتسبب للرجل بالألم، مثلما يمكن ان يتسبب لها هو بالألم. تماماً وبالتساوي. لكن الأهم الاّ ينتهك أحدٌ كيان الآخر ووجوده. وكان الفنان نقولا سعادة نخلة قد غنّى أغنية "كوني مرا" من كلمات خوري، التي يقول فيها: "انتِ الورد، انتِ العطر، انتِ السعادة مصوّرة، يطقّوا الرجال من القهر، بعدك حياتي مسخرة". عن الأغاني "الزميلة" التي تتناول المرأة، يقول خوري إنه يسمعها جميعها، ويرى ان العامل الأهم الذي يُحدث فارقاً هو اللغة المستخدمة، "فالشعر ليس خطابات"، والجمالية مطلوبة ليرقى المعنى وتسمو الرسالة.

"مش هيدي هيّي الرجولة"
يرفض كاتب الأغنية طوني أبي كرم ان يوصف بأنه "منصف للمرأة"، فهي ليست في حاجة أصلا الى من ينصفها، "لأنها مساوية للرجل حتى لا نقول انها تتفوق عليه في مجالات عدة، أهمها الأمومة". يرفضها هزيلة مستسلمة خاضعة، تستدر شفقة الرجل. يرفضها تابعة محذوفة الصوت والصورة من المعادلة الكبرى. طوني أبي كرم، المفتخر بزوجته وابنته، ألِف حب المرأة واحترام كينونتها منذ صغره. لعل أغنية الفنان محمد اسكندر "جمهورية قلبي" استفزته أيما استفزاز، فكتب، ردّاً عليها، أغنية "نحن في عنا شباب" التي غنّتها مي مطر.
يطالب أبي كرم بمجلس للمرأة اللبنانية، موازٍ لمجلس النواب، "لربما القوانين التي تعطي المرأة حقوقها البديهية تُقرّ عندئذ". يميز بين الرجل والذكر، فالأول خاصية الانسان وحده، فيما الثاني مشترك بين جنسي الانسان والحيوان. ويرى ان العالم العربي مصاب بداء الذكورية، الأمر الذي "يبرر" إشهاره الافلاس. ليست كل النساء "قديسات"، يقرّ بذلك، لكن هذا، في رأيه، ليس ذريعة لمزيد من الانحدار. ولِمَ يطلب من النساء أن يكنّ قديسات أصلاً؟
كانت مبادرة لافتة من أبي كرم كتابته كلمات أغنية "علّي صوتِك" التي غنّاها بلال الريس بمشاركة النائبة ستريدا جعجع بسبب عدم إقرار قانون حماية المرأة من العنف الأسري في مجلس النواب. بعض مما تقوله الأغنية بصوت ستريدا: "ما عادت قصة مقبولة بالقوة تتحكم فيها، مين قال عنها ضعيفة؟… حرام العنف ضد النساء، حرام، مش هيدي هيّي الرجولة، ومش هيدي هيّي البطولة". جعجع التي ساهمت في هذا العمل إيماناً منها بأهمية المطالبة بحق المرأة اللبنانية، أكدت ان قضيتها تستأهل أكثر من عمل غنائي أو فني "لأنها قضية سامية وكل النساء معنيات بها". ما هو سبب انتشار الاغاني غير المنصفة بحق المرأة، كالنار في الهشيم؟ يجيب أبي كرم أن التجارة تغلغلت فتكاً في المجتمع، وأن المال قضمه بأسنانه السامة، فصار من يدفع أكثر تُبَثّ أغنيته أكثر. نسف مقولة "الجمهور عايز كدة" من جذورها، مكرراً المثل الشعبي: "التكرار يُعلّم الشطّار"، ولو ان الأغنية لا تتكرر عشرات المرات في اليوم الواحد، لما حفظها الناس ورددوها، ملقياً اللوم أيضا على المغنّي الذي يضع صوته على العمل. لولا ذلك لكان النص بقي في الدرج يتأكله الغبار.

السابق
قراصنة لبنانيون يحتلون مواقع الدولة
التالي
قائد اليونيفيل جال في مرجعيون: نرفع التقارير عن الخروق الإسرائيلية