منـتـهــــي الصـلاحـيـــة

لم يمض وقت طويل على فضيحة اللحم المنتهية صلاحيته، لكن انتهاء مدة الصلاحية يكاد يكون عنوان المرحلة، لنا ان نسأل، ليس بكثير من الخبث، كم هو عدد الأشخاص المنتهية مدة صلاحيتها في الطبقة السياسية اللبنانية؟ كم هو عدد الأشخاص الذين ليست لهم صلاحية منذ بدأوا في الحكم؟ كدت اضع كلمة رجال مكان كلمة أشخاص لكني استحييت من ذلك، والحال ان أفراد الطبقة السياسية رجال ذكور وهم ينقلون إلى الحكم وإلى السياسة صوراً رجولية منتهية مدة الصلاحية أيضاً، انها في الغالب منتهية مدة الصلاحية من أيام المقدمين والأغوات والمشايخ. لنتابع ونسأل كم هي الأفكار والألفاظ المنتهية مدة الصلاحية. سيكون الجواب كلها، جميعها من الحطام القومي والحطام الليبرالي والحطام العشائري، كلها جميعها من حطام 1860 و1958، و1974، مر علينا وقت بدأنا نستحي فيه من استعادة قديمة، قديمة بليت من كثرة الغسل وبليت من كثرة الاستعمال. مر وقت بدأنا نتلمح فيه رجالاً بلا شوارب معقوفة وبلا بواريد وبلا ارتجاز طائفي لكنه كان وقتاً قصيراً. ما لبثنا ان عدنا إلى الاعتداد الرجولي والارتجاز الطائفي، عدنا ولم يقل أحد انكم عدتم إلى قديمكم، لم يستح أحد من الحطام ولم يخجل من اللغة المحنطة ولم يتعفن احد عن الحداء الطائفي. بدونا أبطالاً وأقوياء ورجالاً كاملي الرجولة حين نرفع سيف الطائفة وحين نوغر صدور ابناء الطائفة وحين نقطر عصبية وحين نؤلب على طوائف اخرى، بدونا أبطالاً وأقوياء وكاملي الرجولة حين نعيد مضغ ذلك الكلام الذي خلناه في يوم تحجَّر وصدئ. بدونا كاملي الرجولة حين عدنا إلى خطاب متأرث، ظننا في يوم انه تحنط وتعفن واننا تجاوزناه منذ عقود أو قرون. بدونا أبطالاً وفرسانا ونحن نرابط عند مذابح لم ينشف دمها وما زال يرعف ويغلي رغم الأيام، بدونا أبطالاً ونحن نعارك على كل صغيرة وعلى كل جزئية وعلى القليل والعديم القيمة والنكرة وسقط المتاع. بدونا أبطالاً ولم يقل لنا أحد ماذا فعلتم. لم يطرق أحد حياء ولم يصارحنا أحد بأن هذه أخلاق الحثالات وان هذا دأب العصابات، وان هذا سمت المافيات، واننا صرنا في وقت لا حياء فيه، ولا خلق ولا قيم، ناهيك عن انه بلا فكر ولا علم ولا أدب ولا تهذيب يليق بالمتحضرين. فها هوذا كلام يليق بالبرابرة والسوقة والمتخلفين والعصابات وسقط الناس يذاع ويشيع فلا تندى جباهنا خجلاً ولا نحنق ولا نسخط، وانما نشارك ونردد ونحتفل ونحورب ونهلل. لا يذكرنا أحد بأنه متآكل منخور ولا ينتبه أحد إلى انه منته مدة الصلاحية وانه في احسن الأحوال ما عاد ينفع إن لم يضر وانه لا خير فيه ان لم يكن مسمّماً فاسداً. هكذا نستمر بطبقة سياسية منتهية الصلاحية وخطابات منتهية الصلاحية، وثقافة منتهية الصلاحية وفي النهاية مجتمع منتهي الصلاحية، ويوغلون في انتهاء صلاحيته ويستغرقهم ذلك. الزمان يتأخر بنا ومن حولنا يسرعون إلى لقاء زمانهم، ومن حولنا ينفضون عنهم انتهاء الصلاحية فيما نحن بلا استحياء ولا خجل نهلل لانتهاء الصلاحية ونباهي بها ونجعل منها ومن اصحابها أصناماً معبودة وآلهة ممسوخة، جاعلين من أنفسنا امام جيراننا وحوالينا أضحوكة الأمم، أمة منتهية الصلاحية.
بثت ال. بي. سي. مشهد تلك الأثيوبية المشبثة بالأرض وقد اجتمع عليها الناس، وثمة من ينتزعها من الأرض انتزاعاً ليدفع بها إلى سيارة واقفة في الانتظار. المرأة نفسها وقد حملت إلى دير الصليب مستشفى الأمراض العقلية والنفسية تشنق نفسها وتموت منتحرة، القصة تروى ككل قصة على أكثر من وجه لكن ما التقطته الكاميرا وبثته ال. بي. سي. دامغ واكيد. هذه المرأة تتشبث بالأرض امام جمهرة متفرجة، نعم متفرجة والفرجة كما نعلم للتسلية والناس يتسلون بالفرجة في الشارع والسوق. كم ان إنسانيتنا منتهية مدة الصلاحية لنتسلى بمشهد كهذا دون ان يحفزنا إلى ان نتدخل. ثم ان انتحار المرأة دامغ وأكيد. في مجتمع تتصارع عصبياته وطوائفه، مجتمع منتهي مدة الصلاحية كمجتمعنا الفخور. في مجتمع كهذا ثمة عار اكبر من العصبية، ثمة العنصرية، أليست عصبياتنا في الأصل عنصرية، الا تعتبر كل طائفة الطوائف الاخرى جاهلة او متخلفة او مائعة او متوحشة، أليست هذه الدمغة عنصرية. أليس من السهل ان نسقط تلك العنصرية المتأرثة على كل علاقاتنا، الاثيوبية خادمة ومن هم الخدم في مجتمع شبه قبلي، من هم الخدم سوى العنصر الادنى. من هم الخدم سوى وحل الأرض وكناستها، من هم الخدم سوى لصوص وحثالة وأدوات وآلات. من هم الخدم لنعتبرهم بشراً؟ لهذا نغلق عليهم الأبواب بالمفتاح ونحبسهم أياماً وشهوراً. لهذا نضربهم للتأديب. لهذا نمنعهم من ارتياد المسابح والمقاهي والأماكن العامة. لهذا نعاملهم بفظاظة في كل مكان ولكل شخص حق عليهم، الا يعيشون من خيرنا، من 150 دولاراً التي يدفعها شعبنا العظيم، عنصريتنا قائمة تجاه بعضنا فكيف هي اتجاه الغريب؟
نعم الغريب، هذا اللص المستتر، هذا الجرثومة، هذا العرق الساقط، هذا اللون الداكن، هذا الشعر الاكرت. هذه الرائحة، الغريب الذي ينافسنا على أرضنا، الذي يُغصبنا الأعمال التي نترفع عنها، لكننا لا نغفر له انه يقوم بها عنا. لا نعرف هنا ما هو المنتهي الصلاحية، ان لم يكن إنسانيتنا.

السابق
مخيم طبي للكتيبة الهندية في نقار كوكبا
التالي
جيمس بوند يفتتح أولمبياد لندن