سأكون «بو عَزيزي» لبنان»!

«هذه السنة لن نسمح أبداً بتلف الحشيشة، ولن نتوقف عن زراعتها، ونحن سنتوجه مطلع هذا الشهر للحقول بُغية الزرع، وعلناً و»على راس السطح» ويَلّي بَدّو يصير … يصير، حتى تؤمن لنا الدولة فرص العمل والعيش بشرف. ماذا يريد منّا هؤلاء الذين يجلسون على الكراسي من نوّاب ووزراء، هم مطمئنون إلى معيشة أولادهم، ولقد أمعنوا في إفقارنا وإذلالانا والضحك علينا، خصوصا نواب منطقتنا، وليتذكروا أنّ الجوع كافر ونحن كفرنا بكلّ شيء… بكلّ شيء».

حالة غضب… تسمعها وتلمسها من معظم مزارعي الحشيشة في منطقة بعلبك الهرمل، الذين يعتبرون أنفسهم ضحية خداع الدولة اللبنانية والمؤسسات الدولية المانحة، حين توسّموا خيراً في مشروع الزراعات البديلة وتوقفوا عن زراعة المخدرات… إلّا أنّ الوعود ذهبت أدراج الرياح، والأموال التي رُصدت لمشاريع الزراعات البديلة في التسعينيات تبخّرت والتهمها المسؤولون والنوّاب وأصحاب النفوذ وضبّاط المخابرات السورية وقتذاك.

ولعلّ الصرخات التي يطلقها المزارعون، مردّها إلى عدم توفير البديل عن هذه الزراعة التي تؤمن لهم مردوداً يتيح لهم العيش بكرامة، لأنّ الإهمال الرسمي لمنطقة بعلبك ما زال قائماً، وكما يقال: إن الدولة لا تزور منطقتي بعلبك الهرمل، إلا من خلال قواها الأمنية في إطار عمليات دهم واعتقال وتوقيفات.

فهذه الزراعة كانت نتيجة حتمية لهذا الحرمان الذي يستوطن هذه المنطقة منذ أيام الانتداب الفرنسي حتى يومنا هذا، والذي زاد نتيجة فشل الحكومات المتعاقبة في القضاء على مظاهر البؤس والإهمال الرسمي المتعمد، واستقالة نواب المنطقة الدائمة من دورهم التمثيلي الحقيقي، على رغم وعودهم المعسولة في المجالات الإنمائية التي تحملها بياناتهم الانتخابية عشيّة كل انتخابات نيابية.

موقع مميّز

لعب الموقع الجغرافي لمنطقة بعلبك الهرمل في أقصى الشمال تأثيره الحتمي في توجّه معظم سكان تلك المنطقة نحو الزراعات الممنوعة، كما أنّ وقوع تلك المنطقة على الحدود اللبنانية – السورية جعلها منطلقاً لعمليات التهريب المتداولة بين البلدين.

فالمورد الأساسي للعيش في منطقة الهرمل، بصورة خاصة، تركز على الزراعات البعلية، وتصنيع الفحم في تلك الجرود وتسويقه في القرى الساحلية، إضافة إلى تربية الماعز، إنه نمط اقتصاد البقاء والاكتفاء الذاتي الضيّق بكلّ أبعاده.

المتابعون لظاهرة زراعة المخدرات في منطقة بعلبك الهرمل، يؤكدون أنّ هذه الزراعة بدأت في العام 1927 (فترة الانتداب الفرنسي) في جرود بلدة عيناتا في قضاء بعلبك، ثم تطورت لتغزو جرود الهرمل وكافة قرى القضاء، كما انتشرت في قرى الجبل الشرقي بعيداً عن أنظار السلطات في تلك الأيام. وتطورت زراعة هذه النبتة مع مرور الأيام، بعد اكتشاف سرها وسحرها، وما تدرّه من أموال. وظلّ الحال على هذا المنوال حتى قيام دولة الاستقلال التي تنَبّهت إلى خطورة هذه الزراعة، فأصدرت القوانين التي تحظرها، وحاولت بدورها القضاء عليها، وسمحت للمزارعين بزراعة "القنب الشامي" بموجب قانون 20/8/1956. والقنب الشامي هو ذات النبتة التي تعطي الحشيشة أي "cannabis sativa"، ولكن السائل الذي تحمله الزهرة الأنثى في هذا النوع من القنب ضئيل جدا، لا يتيح للمزارعين أن ينتجوا كميات كبيرة من الحشيشة، لأن ذلك يستوجب كميات كبيرة من نبات القنب، لذا فإنّ الدولة كانت تشتري المحصول لاستخدامه في استخراج الخيوط النسيجية من قضبانه واستخدامه في صناعات أخرى متنوعة.

ويؤكد الدكتور عبد الإمام نون، الذي أعدّ عام 1985 دراسة عن ظاهرة التهريب وأثره في البنية الاجتماعية والاقتصادية، أنّ دخول نبتة الحشيشة إلى منطقة بعلبك شكّل بداية نشِطة لأعمال التهريب. وخلال إعداد دراستي عن هذا الموضوع، أكّد أحد المهرّبين أنّ القوافل المحمّلة بالحشيشة في الماضي كانت تصل إلى منطقة الهرمل، ومن هناك كانت تنتقل بواسطة شاحنات لحساب "لورانس الشعلان" عبر الأراضي السورية في اتجاه المملكة الأردنية، وكانت الحدود اللبنانية – السورية عام 1950 لا تعرف مراكز للجمارك، ولا توجد موانع لدخول البضائع والسلع أو خروجها، حتى حصول الانفصال الجمركي في العام نفسه عن سوريا. واستطاعت منطقة بعلبك منذ القدم أن تؤمن ممرات عبر الجبال تربطها بسوريا، كان أهمّها : بعلبك – عنجر – دمشق، بعلبك – الزبداني – دمشق، بعلبك – اللبوة – جوسي – حمص، إضافة إلى الممرات والمساك التي كانت تعبرها قوافل الجمال عبر الجبال والأودية".
  الأحداث اللبنانية: فرصة ذهبية

الأحداث اللبنانية وما تلاها من سنوات حرب وفوضى وفلتان أمني، شكّلت للمزارعين فرصة ذهبية، فتوسعت زراعة الحشيشة، ومعها توسعت زراعة الأفيون "أبو النوم". وصار للمهربين طرقات خاصة لتهريب البضاعة إلى دول أوروبية، وكان للميليشيات دورها في تسهيل مرور المخدرات، سواء عبر مطار بيروت أو المرافئ التي باتت خارج سلطة الشرعية. وتجارة المخدرات كان لها دور إيجابي على الصعيد الاقتصادي، فعمّت البحبوحة منطقة بعلبك الهرمل، وطبعاً تأثرت بقية المناطق اللبنانية بهذه الطفرة المالية، وشاركت في تجارة المخدرات شخصيات سياسية ونيابية واجتماعية بارزة، حتى في زمن الوجود العسكري السوري في لبنان، بقيت زراعة المخدرات ناشطة، واستفاد عدد كبير من المسؤولين الأمنيّين السوريين واللبنانيين من هدايا المهربين

وتقديماتهم، لقاء توفيرهم التغطية الأمنية، وكانت أسواق التهريب موزعة على عدد من الدول الأوروبية والأميركية، وتشارك فيها عصابات منظمة محلية ودولية، حتى أنّها شملت إسرائيل ومنها إلى مصر، من خلال الشريط الحدودي المحتل، وبتواطؤ مع مسؤولين في الجيش الإسرائيلي، وجيش لبنان الجنوبي "جيش أنطوان لحد".

حشيشة في الملفوف

وشرح أحد المزارعين (مصطفى.ش)، وهو من أصحاب الباع الطويل في عمليات تهريب المخدرات، كيف أنّ عمليات التهريب كانت تتم بتواطؤ من مسؤولين أمنيّين وشخصيات سياسية وحزبية بارزة، لقاء عمولات وسمسرات: "… إخترعنا افضل الطرق لتهريب الحشيشة، منها وضعها في نبتة الملفوف وتركها تلتفّ حولها. وكنّا نصدرها مع كميات الخضار التي كانت ترسل إلى مصر وعدد من الدول العربية، وكذلك في خزانات الوقود للسيارات بعدما قسّمنا خزان وقود السيارة إلى قسمين، الأسفل للحشيشة والأعلى للبنزين، وفي المعلبات وغلاف الشاي، كل ذلك بُغية التمويه والتهريب".

ولأنّ زراعة الحشيشة أقلّ كلفة من زراعة الخضار والحبوب وتدرّ مالا وفيراً، فإنّ المزارعين يتهافتون على زراعتها، وحسب (الياس .ر) من بلدة حوش تل صفية، إنّ زراعة نبتة الحشيشة تتميز بانخفاض كلفتها من ناحية اليد العاملة وعدم الحاجة إلى كميات من المياه لريّها، وهذا ما يجعل من زراعتها أمرا ميسورا، في حين تتطلب زراعة الحبوب والبطاطا عناية وإمكانات وكلفة أكبر، وتحتاج إلى أسواق تصريف، فضلاً عن تعرّضها للمضاربات الخارجية. أما المزارع (م .ع) فقد اكد أنّ الدولة هي التي تدفع المواطنين في المنطقة للإتجار بالمخدرات، لأنها لا تهتم بمصيرهم ولا تفتح أمامهم سُبل العيش والارتزاق، فيضطرون للجوء إلى مثل هذه الزراعة "نظراً إلى الإيرادات المالية التي تتأتّى منها (نحو 4 مليارات دولار، وهذا الرقم يخضع للتغيير زيادة أو نقصاناً تِبعاً للمساحات المزروعة وعدم إتلافها…).

إلى الحقل

مزارعو المخدرات يستعدون للتوجه إلى حقولهم للبدء بزراعة المخدرات، فيشرح زياد .ع. لـ"الجمهورية": "إنّ عملية زراعة المخدرات تبدأ من خلال زرع البذور "القنبز" في بداية شهر شباط، وفي شهر أيلول يتمّ قطف عشبة الحشيش وتجفيفها ثم تنظيفها، وفي أشهر الشتاء يبدأ الكبس في معامل خاصة ابتدعها مصنّعو المخدرات، بعدما تتحوّل مادة تشبه الطين، وتسمى كل قطعة من المخدرات "هُقَّة"، وتوضع في أكياس من الخام". ويؤكد أحد مزارعي المخدرات أنّ الدونم المصنّع جيدا يُعطي (أوقَّة) من الزهرة أي (نصف رطل)، وأوقَّتين من (الكَبشَة) العادي. كما أنّ زراعة ألف متر مربع بنحو كيلو واحد من القنبز، تعطي ما بين 40 و50 كيلو من الحشيشة يصل سعرها إلى نحو 20 ألف دولار أميركي (تبعاً للظروف وحركة الطلب وإمكان التهريب)، والحشيشة أنواع: الزهرة، الكَبشة، وأجوَدها الـ"هَبُو"، وزهرَة "الكُولش". يتم تخزين مسحوق الحشيشة داخل أكياس من القطن أو الكتان، وبذلك يحتفظ بفاعليته أطول فتره ممكنة.

حملات التلف

وفي كل عام، وفي أشهر الصيف وقبل حلول موسم قطاف الحشيش، تقوم الدولة اللبنانية بحملاتها لتلف مساحات كبيرة من هذه المزروعات التي تقدّر بنحو عشرين ألف دونم، وهي حسب مكتب مكافحة المخدرات كافية لإغراق السوق اللبنانيّة. وكثيراً ما تتعرّض القوى الأمنية لإطلاق رصاص وقذائف صاروخية من المزارعين، بُغية مَنعها من إكمال عملية التلف.

حالة طوارئ إنمائية

وبدلا من إعلانها حالة طوارئ عسكرية، قال أحد المزارعين: "فلتُعلِن الدولة اللبنانية حالة طوارىء إنمائية لمنطقة بعلبك الهرمل ومناطق أخرى مماثلة في عكار والجنوب وبلاد جبيل، حتى يشعر المواطن بأهمية الانتماء الى دولة راعية وعادلة، لا دولة المزرعة والأزلام والمحاسيب والصفقات والسَمسرات".

وأضاف: "لا تنسى أن تذكر يا أستاذ في "جريدتك"… أنني سأموت في أرضي وبين حقول الحشيش هذا العام، حتى أكون مثل "بو عَزيزي تونس" لأفجّر ثورة الجيَاع في لبنان". هكذا قال لي المزارع (نجيب.خ)، وأنا متوجّه إلى سيارتي لمغادرة المنطقة…!! 

السابق
فارس سعيد: الحريري لن يشارك في ذكرى 14 شباط
التالي
مجلس الأمن لمشروع يلحظ النقاط الروسيّة