نوفمبر …. مطلع المعجزات

نوفمبر.. قد يكون شهرا من بين الاثني عشر شهرا السنوية وهو كذلك بالفعل ولكنه بالنسبة لبلد المليون ونصف المليون شهيد هو شهر نقشت حروفه بذهب في تاريخ الجزائر لا بل نقشت بدماء طاهرة في كل شبر من أرضها الطاهرة المباركة.
هو نوفمبر .. هو مطلع فجر الحرية لبلد عانى أكثر من مئة وثلاثين سنة من الهيمنة الأوروبية الفرنسية الغاشمة ليجيء مطلع فجر النصر عن استحقاق.
عندما آمن الشعب الجزائري بمقولة "ما يؤخذ بالقوة لا يسترجع إلا بالقوة" آمن بأن رأسا كفرنسا لا تؤمن بالنضال السياسي ولا بالكفاح القلمي وإنما تؤمن فقط ببشاعة كبطشها في الشعب الجزائري. هنالك صرح الجزائري لنفسه بأن تطلق أول رصاصة من جبال "الأوراس" بأعالي مدينة "باتنة" في الشرق الجزائري ليوافق ذلك الفاتح من نوفمبر لسنة الأربع والخمسين وتسع مئة وألف للميلاد، معلنة تلك الرصاصة عن بداية جزائر جديدة، جزائر الثورة، جزائر الكفاح، جزائر النضال، جزائر أبية، جزائر الحرية، جزائر الإسلام والروح العربية ذو الأصالة البربرية الأمازيغية.
انه موعد مع التاريخ لانطلاق الثورة التحريرية الكبرى الثورة المجيدة للشعب الجزائري ونهاية لمائة وثلاثين سنة لك أن تقتطع منها سبع سنوات مثلت معركة ضارية لإنتزاع الحرية.
هي أكثر من قرن وثلاثون عاما من الاستيطان الفرنسي للجزائر نهب فيها العدو من خيرات الجزائر ما شاء وتمتع برزقها ما طاب واستغلها من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها في صحرائها الكنز الجزائري المدفون، متاعا غذاء وشرابا و ملبسا وسكنا.
فكان لهذا الغاشم في رد الجميل بجميلين وهو الذي لم يدع بشاعة إلا واستعان بها و بطشا وتعذيبا إلا واستعمله فوق اللحم الجزائري دونما أي تفريق بين ذكر وأنثى ولا امرأة و رجل، لا طفل ولا كهل محاولا بذلك طمس عناصر الهوية الجزائري بداية بالإسلامية منها والعربية ناهيك عن هتك عرض البيوت والأراضي والأملاك بفرض قوانين على الشعب في أرضه وكتب التاريخ أحسن موثق لذلك مقتنعا بذلك بمبدأ "امتلاك للأرض امتلاك لعقول من فوقها".

وليأتي اليوم الموعود الذي طال انتظاره ليكون مجيدا في الخروج من ظلمات الاستبداد إلى نور الحرية هذا الأخير الذي لم يكن إلا القطرة التي أفاضت الكأس لرجالات الجزائر آنذاك فقبل ذلك توزعت الثورة في كافة أرجاء الوطن على شكل مقاومات شعبية مسلحة نذكر منها ثورة الطوارق في الصحراء الجزائرية بالجنوب و ثورة" الشيخ بوعمامة" و ثورة" الأمير عبد القادر" بالغرب الجزائري بمعسكر و العظيم هو أن تضع المرأة يدها بيد أخاها الرجل في مقاومة الغاشم فكانت مقاومة بقيادة متوهة الاستيطان الفرنسي الأمازيغية الجميلة "لالا فاطمة نسومر" في القبائل الكبرى أين أطاحت بفرنسا شر إطاحة.
الكل حاول بتلك المقاومات حماية ما يسعه من أرضه ليحمي تراب الجزائر كلها نظرا لاتساع الرقعة الجغرافية والهوية المزروعة بين ترابه بالنفس والنفيس.

هذه المقاومات التي أعطت الدافع الأكبر لانطلاق الجزائر في ثورة كبرى عام أربع و خمسين وتسع مئة وألف التي لم تمنعها لمد يد المساعدة للشقيقتين تونس والمغرب التي نالت كليهما الاستقلال بعد ذلك بسنتين، ولتظل الجزائر الملاذ الفرنسي الوحيد و محل أطماعها لما تملكه من موقع جغرافي استراتيجي بشريط ساحلي مطل على البحر البيض المتوسط يبلغ الألف والمئتين متر ولتكون بذلك بوابة القارة السمراء ناهيك عن شواطىء المرجان بـ "القالة" والذهب الأسود بالصحراء وغيرها و غيرها.
رجالات الجزائر الذين اتخذتهم فرنسا أرواح الصفوف الأولى للمدافعة عنها إبان الحرب العالمية الثانية بعدما سقط جبروتها أمام وحش ألمانيا بعد وعدهم باستقلال كاذب سرعان ما تراجعت عنه ليخرج الجزائريون في مظاهرات أصبحت بعدها بقليل مجزرة الثامن من مايو عام الخمسة والأربعين التي تشكل قطرة من بحر من جرائم فرنسا البشعة في الجزائر فجرائمها ضد الإنسان لا يزال يعاني منها أبناء المليون ونصف المليون شهيد إلى لحظتنا هذه حين اتخذت صحراء الجزائر حقلا لتجاربها النووية فكان الضحية أبناء هذه الصحراء ليولدون بتشوهات خلقية وقتها و إلى يومنا هذا، وهذا إن دل فإنما يدل أن الزمن لم ولن ينسى بطشا وجرما كجرم هذه الأخيرة. ناهيك عن الألغام المزروعة في الأماكن التي شهدت خضم المواجهات و الصراع لنجد وإلى لحظتنا هذه" احذر منطقة ألغام " وتجد حولها سياج عله يحمينا منها.
فكل بقعة شهدت لتروي لنا قصة شعب عانى فثار وثار فتحرر بثمن غال.
هي سبع سنوات من إشعال نار الثورة، تقهقر على كل الأصعدة، امرض وأوبئة، جهل وأمية، نساء أرامل، أطفال يتامى، لذا أتجنب كتابة مصطلح شائع "الاستعمار الفرنسي" ففرنسا لم تعمر إلا دمارا في الجزائر مدته مئة وثلاثين عاما وخلال سبعة منها فقط حصدت أكثر من مليون ونصف المليون شهيد ناهيك عن المائة والثلاث والعشرين الأخرى التي لم يشتغل فيها عداد الأرواح التي فدت نفسها.
وبالرغم من ذلك فرنسا لا زالت تحافظ على أنفها الخشبي وهي ترفض الاعتراف بجرائمها ضد الإنسانية في الجزائر، وترفض حتى الاعتذار اللفظي؟

لم يكتب لي القدر أن أعاصر ثورة أجدادي لكني اليوم أعاصر بعضا ممن عاصروها وأرى الكثير من مخلفاتها. فلا تجد بيتا جزائريا لم يقدم شهيدا أو أكثر، أو مجاهدا أو مناضلا الى جانب ثوار جبهة التحرير الوطني.
فالشباب الجزائري آنذاك لم تكن تهمه صرعات الموضة ولا مختلف صيحات التكنولوجيا بل كان بهمه انتزاع الحرية من المغتصبين حين يستجيب لفرض الجهاد تاركا وراءه أمهات يروين بدموعهن أو زوجات يحملن صغارا او آباء رافعين محياهم مفتخرين بفلذات كبدهم.


عمي "الحاج الطاهر" أخ والدي الأكبر رجل ثوري تربى بين صفوف جبهة التحرير الوطني هو الآن في عقده السابع لا يزال يشكو رجله التي أصيبت إبان الثورة، رغم قلة كلامه شبه المنعدم لكنه يجد فيضا من الكلام عندما يروي تجربته الثورية.
أما عن أمي التي لا تتذكر عن أبيها إلا روايات هي الأخرى رويت لها ولكن الشيء الذي لا يمحى من ذاكرتها وعمرها لا يجاوز الخمس سنوات هو الفقر التي عاشته و إخوتها الخمس الآخرين والأكثر من ذلك اليتم الأبوي. واجتياح العسكر الفرنسي بيتهم من الفينة إلى الأخرى ذلك العسكر الذي لا يصدق أن يجد أرملة ليسلط عليها دونما أي مقاومة.
كنت في السادسة من عمري أو اقل بقليل عندما كان يثير تساؤلي منظر لشيخ تجاوز عقده السابع يجلس إلى جانب منزل "عمي الحاج الطاهر" رجل أمامه عكاز يحسبه رجله الثانية التي قدمها ثمنا لحرية أرضه وإعلاء كلمة الحق فوقها. هو "جدي العيد " – رحمه الله- أتذكر إني سألت والدي عنه وأخبرني أنه قريبه وأن ساقه بترت إبان الثورة عندما قصفت طائرات المستطين الغاشم المجاهدين في الغابات.
هذا ما حصدته فرنسا فوق أرضنا أعضاء بشرية، أرواح، يتم، استشهاد ولكنها لم تحصد هدفها الأكبر"جزائر فرنسية" او فرنسا الأوروبية الممتدة إلى افريقيا بعد البحر الأبيض المتوسط .
رحمك الله " جدي العيد " وأطال العلي عمرك "عمي الحاج الطاهر" وفي الجنة نلتقي يا أبا امي إن شاء الله، بأمثال رجال عرفوا منهج الشرف فانتهجوه وأدركوا الجهاد كفرض فطبقوه كان للجزائر موعد مع شمس الحرية في الخامس من جويلية (تموز) لسنة اثنين وستين وتسعمئة والف كإعلان رسمي عن قيام دولة جزائرية الإسلام دينها والعربية لغتها والأمازيغية أصالتها.

وها هو اليوم بلدي الحبيب يحيى الذكرى السابعة والخمسين لاندلاع الثورة المجيدة كثورة للشرف طاويا بذلك حقبة كانت فيها أقدام فرنسا تدنس ترابها وحقبة "العشرية السوداء " من الإرهاب ليحيى الوئام المدني بعد أن اختاره بتصويته.
لندعي الله رافعين أيدينا أن يرزق قدسنا الشريف حرية من الصهاينة.
حماك الله يا جزائر وحمى قدسنا الشريف وكل شبر من أرضنا العربية.
 

السابق
معين المرعبي: رفعنا شعار لا للسلاح وسنكمل المسيرة
التالي
ورشة تجميل … تمساح