40 أبكم من اصل 6000 نسمة في عين قانا

يحصي أهالي عين قانا في إقليم التفاح، وجود أربعين شخصا من أبناء البلدة مصابين بالبكم، وهو رقم كبير نسبة إلى عدد سكانها الذي لا يتخطى 6000 نسمة. ووفق المصادر الطبية المهتمة بدراسة ومتابعة هذه الظاهرة، يبدو أن عاملَي الوراثة وزواج الأقارب هما المسببان الرئيسيان في وجودها وانتشارها.
ويشكل بكم عين قانا في ما بينهم نسيجا مجتمعيا خاصا قوامه لغة الإشارات، إذ تتولى الأيدي مهمة الشرح بحركات رشيقة مقتضبة، عما تعجز الألسن عن قوله. ويترك للعيون وقسمات الوجوه التعبير عن الإنفعالات العاطفية كالحزن والفرح والدهشة والخوف والقلق وغيرها، ترافقها تمتمات مكتومة، ومقاطع صوتية مبهمة.

كما أن بكم عين قانا منخرطون في علائق إجتماعية طيبة وعميقة مع أبناء بلدتهم، يشاركون في جميع المناسبات التي تقام في البلدة، في الأفراح والأتراح، وهم أصحاب بسمة دائمة ونكتة حاضرة. بوجودهم تضيف عين قانا إلى أيامها ولياليها، نكهة خاصة تميزها عن بلدات الإقليم، نكهة بطعم التكافل والرعاية، وبهم تتحول البلدة الجبلية المرتفعة، بحاراتها المتباعدة وطرقاتها المتفرعة نحو كل بلدات إقليم التفاح، إلى حضن جامع يلملم الحس الإنساني أشتاته، وحال أبنائها كحال الإعرابية التي سئلت: أي أبنائك أحب إلى قلبك؟ فأجابت : أحب الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يشفى، والغائب حتى يعود.

حارة "الملالحة"، نسبة إلى آل الملاح، تضم أكبر عدد من البكم في عين قانا، ويعيش فيها الأشقاء صافي ومحمود ومحمد وحسين وموسى وأحمد ملاح. وكلهم لا يقدرون على النطق. لكن بزواجهم من خارج العائلة، استطاعوا إنجاب أطفال أصحاء، وهم يتبادلون مع نسائهم وأولادهم الأحاديث بلغة الإشارات. صافي يعمل في البناء وهو غير راض عن "يوميته". أما أحمد فيعمل "جزارا" وتساعده زوجته في عمله، تقف إلى جانبه من الصباح حتى المساء، تتفاهم مع الزبائن وتنظم عمليات البيع والشراء في الملحمة. موسى انتسب سابقا إلى مدرسة للبكم في مدينة صيدا وصار يجيد القراءة والكتابة بالنظر. أما باقي الأشقاء، فيعملون أجراء في المواسم حسب الطلب.
 
والسبب في وجود هذا الكم من البكم عند آل الملاح، كما يشير احد أبناء العائلة، هو تكرار الزيجات من العائلة نفسها، والذي أسهم في انتقال الجينات ذاتها من جيل إلى جيل، دون أن تطعّم بجينات جديدة من عائلات أخرى، ما أدى إلى تجذرها. والحل لا يكون إلا بعدم تزاوج آل الملاح من بعضهم البعض. الرأي الطبي لا يختلف كثيرا مع هذا الرأي، إذ يقول إن زواج الأقارب المتكرر يتسبب بولادات معوقة، لعدم تبدل واختلاف الجينات.
وفي الطب أيضا، يعمل عدد من الأطباء منذ فترة، على رصد ودراسة حالات البكم في عين قانا، حيث وجدوا أن حاسة السمع لدى البعض ضعيفة، ويمكن من خلال تدريبات مختصة مساعدتهم على تحسين مستوى السمع. كما رصد الأطباء المتابعون حالات فاقدة للسمع تماما، لكن يمكن تعويض ذلك بزرع جهاز سمع بديل داخل الأذن عن طريق عملية جراحية بسيطة.

لا يعاني بكم عين قانا مشكلة تواصل مع محيطهم، ولا يفتقرون أيضا للمتابعة الطبية اللازمة، لكنهم يفتقدون بالتأكيد وجود رعاية رسمية من قبل وزارات الدولة، حيث الغياب التام لكل أنواع الخطط والمشاريع التي تؤمن لذوي الإحتياجات الخاصة، والبكم شريحة كبيرة منهم، فرص عمل مناسبة تساعدهم على استثمار طاقاتهم في المكان الصحيح وتتيح للمجتمع الإستفادة منها.
وإلى جانب التقصير الرسمي العام في التعامل مع قضايا ذوي الإحتياجات الخاصة، وحالات البكم المتفاقمة في عين قانا بشكل خاص، يبرز أيضا تقصير مؤسسات المجتمع المدني في هذه المسألة. فرغم العدد الكبير لحالات البكم والمرشح للإرتفاع في عين قانا، لم تتحرك البلديات المتعاقبة ولا الجمعيات على صعيد البلدة، لإقامة مشروع تشغيلي يستنهض مواهبهم البديلة ويوجهها نحو حركة انتاجية نافعة.

وعن هذه النقطة، تشير مديرة "جمعية تمكين" ندى اسماعيل إلى أن الجمعيات المدنية لا يمكنها أن تحل مكان مؤسسات الدولة في إيجاد حلول شافية لهذه القضايا. وهي، وإن ساعدت في ملء الفراغ، تبقى جزءا من الحل ليس أكثر. كما تنبه إلى الصعوبة الطبية والعلمية في معالجة حالات الإعاقة في النطق، مقابل الحصول على نتائج مرضية في معالجة حالات الصمم.
ويلفت الدكتور جمال علو إلى افتقار المجتمع اللبناني إلى ثقافة التواصل مع ذوي الإحتياجات الخاصة. والمطلوب تدريب الأسوياء على كيفية التعامل مع هذه الفئة من الناس وليس العكس. ويرى أن ظاهرة البكم في عين قانا وراثية دون أدنى شك. وبقليل من التوعية والإرشاد يمكن السيطرة عليها.
حكاية الأربعين أبكم في عين قانا، ليست من سلسلة حكايات قبل النوم، لأن من يرى معاناة هؤلاء الناس عن قرب لا بد أن يجافي النوم عينيه، ويتمنى لهم نهاية سعيدة، ولو في قلبه، وذلك أضعف الإيمان. 

السابق
الشهيد قصير..إلى حضن والديه
التالي
وحيد القرن مهدد بالانقراض