الشهيد قصير..إلى حضن والديه

تحل ذكرى عملية الشهيد أحمد قصير ويوم شهيد حزب الله مختلفة هذا العام. أما السبب، فالمسلسل الدرامي «الغالبون»، الذي قدّم للمرة الأولى نبذة عن سيرة قصير، التي توّجها بتفجير مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي. عشية الذكرى، اليوم، اختار من جسّد الشخصية، تعقب خطواته عائداً من العملية وصولاً إلى حضن والديه

تتوقف بنا السيارة في ساحة بلدة دير قانون النهر للسؤال عن منزل عائلة الشهيد أحمد قصير. ينهض رجلان وثلاث نسوة وشاب من مقاعدهم لجوابنا بحماسة لا يتأخرون في إعلان سببها: «جايبين لهم الشهيد أحمد معكم؟»، مشيراً إلى الشاب الجالس في المقعد الأمامي، لكن «الشهيد الذي كان في حوزتنا» لم يكن أحمد، فاتح عهد الاستشهاديين قبل 29 عاماً حينما اقتحم بجسده وسيارته المفخخة مقر الحاكم الإسرائيلي في جل البحر في صور، بل قاسم اسطمبولي، الفنان الذي جسّد شخصيته في المسلسل الدرامي «الغالبون»، الذي عرض خلال شهر رمضان الماضي، واستعرض ملامح من انطلاقة المقاومة في منطقة صور.

فالمسلسل نال شهرة واسعة ونسبة مشاهدة كبيرة في دير قانون تحديداً، بما أنّها المرة الأولى التي تجسَّد فيها شخصية أحمد تمثيلياً، وقد ارتبط وجه الأخير بملامح قاسم تلقائياً في أذهان الكثيرين. ويشير قاسم إلى أنّ بعض أقاربه وأصدقائه، لا يزالون حتى اليوم ينادونه بـ «الشهيد أحمد» أو «فضل»، أي الاسم العسكري الذي عرف به أيضاً، لكن المفارقة أنه خلال الإعداد للعمل، لم ينظم القيمون عليه زيارة لقاسم إلى دير قانون النهر، ليتعقب خطى صاحب الشخصية التي أدّاها، من منزل الولادة إلى الأحياء التي شهدت طفولته وصباه ومحل بيع الخضر الذي افتتحه، وكان يرفض قطعاً دخول الإسرائيليين إليه. جسّد قاسم الشهيد أسابيع خلال فترة التصوير، لكنها «بقيت حرقة في قلبي لأني لم أزر مسقط رأسه، ولم أقبّل يدي والديه»، يقول قاسم، الذي اختاره السيد جواد حسن نصر الله لأداء الدور.
من هنا، قرر قاسم تحقيق أمنيته عشية ذكرى استشهاد أحمد قصير. اختار الشاب أن يقتحم بجسده الحي والأعزل الفراغ المادي الذي أحدثه غياب أحمد. نصل معه إلى الزقاق المؤدي إلى المنزل. يتقدم «أحمد» بخطوات خجولة ومرتبكة كالعائد بعد غياب طويل، ويريد أن يفاجئ عائلته بعودته. في الممر الضيق الذي يفصل بين البيوت، يصطف بعض الأطفال والفتيات اللواتي ترتسم الدهشة في عيونهم، كأنهم يشاهدون أحمد الذي ارتحل قبل ولادتهم بسنوات ولا ينفكون يسمعون عن حكاياه ويلتقون صوره في كل الأنحاء أينما اتجهوا في دير قانون. تهمس فتاة لرفيقتها: «هذا هو أحمد. طلع من اللافتة المرفوعة عند مدخل البلدة ومن حكايا وخطابات القادة وصار حياً بيننا». تحتاج رفيقتها إلى وقت طويل لكي تستوعب أنّ «الشهيد أحمد الذي تحوله بعض الروايات إلى أسطورة لا يزيد عمره على 18 عاماً، هو شاب من جيلهم، مر بمثل ظروفهم واهتم بما يهتمون به».

يصل أحمد إلى «بيته» متأخراً عن موعده 29 عاماً. مع ذلك، كان الجميع بانتظاره مع إضافات كثيرة. البيت نفسه تغير بعد عدوان تموز، بعدما «أكل» نصيبه. عند المدخل، يصعب عليه التعرف إلى شقيقه الذي لم يكن قد ولد بعد. يصافحه بسرعة قبل أن يسأل عن والديه. في الطريق إليهما من الباب إلى غرفة الجلوس، يلتقي ميثم من دون أن يعرفه، لكنّ تلاقياً روحياً يولد بينهما في ثوان وتطول «الوقفة» والعناق. كيف لا وميثم هو ابن شقيقه محمد الذي علّمه المقاومة التي اقتادته إلى هذا الدرب. يلج الغرفة حيث يجلس الوالد جعفر قصير (أبو موسى) على كرسي يمد رجليه ويركن عصاه إلى جنبه.

أما أم موسى، فهي متشحة بالسواد تعلوها على الحائط لوحة لشهيدين يتوسطهما هو. فأحمد لم يكن فاتح عهد الاستشهاديين على درب المقاومة، بل فاتح عهد الشهداء في أسرته أيضاً، شقيقه الأكبر موسى بدايةً ثم ربيع في عدوان تموز. يجلس أحمد بين والديه مطأطئاً الرأس دامع العينين، كأنه خجل من دمع أمه ومن مرض أبيه. وكان قد ترك الأخير في السعودية حيث كان يعمل، ليعود إلى دير قانون ويهزم اسرائيل. ومنذ ذلك الحين، بدأ عملاً من نوع آخر. عمل استلزم الكثير من «الكذب» على أم موسى. يقول إنه عائد الى البيت عند وقت الغداء ويتأخر الى منتصف الليل والحجة: كان يلعب كرة قدم. وبقي على هذه الحال إلى أن «كذب» الكذبة الكبرى قبل يومين من العملية. خرج ولم يعد. والمؤلم أن والديه لم يحصلا على خبر عن ابنهما المفقود إلّا بعد ثلاث سنوات عندما كشف عن هوية منفذ العملية بعد تحرير المنطقة من الإسرائيليين.

أمس، لم يعد أحمد رفاتاً أو صورة أو شخصية في مسلسل. عاد رجلاً بشحمه ولحمه، لكن أنحف بكثير. تبتسم أم موسى وتفشي لأحمد الجديد أنّ الأصلي كان أكثر وزناً منه، إذ كان يبلغ وزنه عند استشهاده نحو 110 كيلوغرامات. مع ذلك، فإنها تحاول التأقلم مع شكل ابنها، الذي عليه هو أيضاً أن يتأقلم مع أشياء كثيرة استجدت، تجاعيد وجهي والديه وضعف جسديهما، حيث يتحمل أحمد جزءاً من المسؤولية عن حصولها. يمر نقاش قصير عن المسلسل، يتخلله «عتب» من الوالد لأنه «لم يفرد المساحة الكبيرة التي يستحقها أحمد، فلم نشاهد الكثير من طباعه ومواقفه وشخصيته القيادية القوية». ويشير إلى العشرات من المواقف التي لا يزال كبار السن في البلدة يتناقلونها ويروونها لعائلته. كيف كان يبدل اللافتات المؤدية إلى البلدات لكي يضيع الجنود وجهة دورياتهم، لكن أبا موسى يستدرك بأنه يشاهد أحمد نفسه اليوم أمامه. يقبل قاسم والده وينحني إجلالاً لوالدته، ثم يجول ليسلم على الحاضرين فرداً فرداً من أشقاء وأحفاد وأقارب تمهيداً لخروج جديد. خروج لا يقبل ميثم أن يكون نهائياً كما فعل عمّه قبل 29 عاماً. يأخذ رقم هاتف قاسم وعنوانه، ويتفقان على التواصل الدائم  

السابق
بلدية صيدا نصبت قوسا للنصر ويافطات الترحيب بحجاج بيت الله الحرام
التالي
40 أبكم من اصل 6000 نسمة في عين قانا