اللسان.. عنف بأشكال مختلفة

لم تعد «رداءة» لفظ اللبنانيين، وسلاطة ألسنتهم، حالاً شاذّة يشار إليها بالبنان. المفردات الجارحة، ولو في معرض التودّد، تحوّلت نتيجةً للعادة إلى «محط كلام» ما يجعل الباحث يستبطن من خلال تراكمها وانتقالها من جيل إلى جيل، حقيقة نفوسنا وماهيّة مجتمعنا

بعيداً عن المشادات والمواقف الحانقة التي تشهد على انحدار مستوى الخطاب إلى أسفل درك له، يقود البحث في شؤون لساننا إلى سرعة ملاحظة سلاطته المعبّر عنها بكمّ من التشابيه والاستعارات والمجازات والتراكيب النحوية المحمّلة بالعنف الصريح والسلبية والجمود. تتلاطم بين طبقاته، يلوكها، قبل أن يقذفها في حديثه اليومي المكرور للكشف عمّا يجول في خاطر صاحبه أو التعبير عن موقف محدّد أو توصيف الآخر أو حتى مغازلته، ما يفتح الباب واسعاً أمام التنقيب عن سمات لهجاتنا اللبنانية والحفر عميقاً في مكوّنات هويتنا. فليس أصدق من الخطاب المتداول وسيلة لفضح دواخلنا، وما نبرة كلامنا المتوترة وأسلوبنا التعبيري «الهابط» غالباً سوى إشارة إلى أن «رداءة» اللفظ لم تعد حالاً شاذّة يشار إليها بالبنان!

بحر لساننا واسع المدى، ينطق العنف الصريح بانسيابية لأهداف قد تبتعد عن السلبية أحياناً، إذ رغم دوران المفردات التي نتداولها في خطابنا اليومي في فلك التحقير المباشر والإهانة والتهميش، لا يحيل تحليل مضمون هذا الأخير دوماً إلى معنى سافر: فكم مرّة نردّد مجاز «حمار الشغل» في خضمّ الحديث عن الكدّ في العمل؟ أو نبتسم لعبارة «تقبريني» أو «تقبري قلبي» حين ينطقها الحبيب بسلاسة؟ ولكن الإشارة إلى هذا التفصيل، لا تنفي أنّ «تعرّجات» لساننا جارحة كلاماً، وتبرز مستوى رثّاً من التواصل مع بعضنا البعض تشوبه غالباً مفردات «شاذة» تحوّلت نتيجةً للعادة إلى «محط كلام» يجعل الباحث يستبطن من خلال تراكمها وانتقالها من جيل إلى جيل عبر الأمثال الشعبية، كما تطويرها لتعبّر بصيغة حديثة عن أحوالنا، حقيقة نفوسنا وماهيّة مجتمعنا، حتى يكاد العنف اللفظي المباشر، لسهولة استخدامه، يشابه أمواج البحر التي يتوقعها السابح، فلا يدير لها الظهر ليتقيها بل يرتمي في أحضانها للانتعاش بملوحتها!

القاموس الشعبي للمبتدئين

وإذ يشكّل عالم الحيوان مرتعاً خصباً للاستعارات والتشابيه والمجازات والكنايات المتداوَلة على ألسنتنا، توضح الأمثلة التالية علم البيان خاصّتنا ومدى ثراء قاموسنا الشعبي في طبعته غير المنقّحة والموجهة للمبتدئين.
يشبّه «قاموسنا» الشقي بـ«القرد» والضعيف بـ«البسين» أي الهر، والسمينة بـ«البقرة» أو «الدبة»، والغبي أو طيّب القلب بـ«الحمار»، والعنيد بـ«التيس»، وقاسي الطباع بـ«الوحش»، و«القبضاي» بـ«السبع»، والذكي بـ«الثعلب»، والصبور بـ«الجمل»، والمتلوّن في مواقفه بـ«البربختي» أو «الشختي بختي»، والخبيثة بـ«الحيّة» او الأفعى، وعديم الإحساس بـ«التمساح»، وعديم الفهم والاتعاظ بـ«الجحش» أو «البهيم»، ومن يكثر الكلام بدون طائل أو يهرب في الموقف الصعب بـ«الكلب»، ومن يؤيد أفكاراً باليةً بـ«الديناصور»، والوسط المؤذي بـ «وكر الدبابير». وتؤكد الأمثال الشعبية المتداولة أن كلامنا لا يشذّ عن قاعدة البعد عن الطراوة: فهل من «بلاغة» تعبيرية عن الحال الميؤوس منها تتجاوز «أكثر من قرد ما مسخو الله؟» وهل يعبّر عن «آفة» رفع الأم من شأن ولدها رغم عيوبه غير «القرد بعين إمو غزال؟» وهل يبرز الكلام المكرور بغية بلوغ الهدف أكثر من عبارة «التكرار بيعلّم الحمار؟».
وتتوالى الصور لتبيّن صدفة حضور شخص عند ذكره أثناء الحديث بـ«اذكر الجحش بيطحش طحش» أو «اذكر الديب وهَيي القضيب»، وأهميّة التصرّف بصورة مباشرة بدلاً من طلب الواسطة بـ« بدل ما تقول للدجاجة كِش أضربها واكسر لها اجرها». ويجابَه الشخص الذي يصرف الاهتمام عن المقاصد بـ«بيلهي الحمار (الدب) عن عليقه»، ومن يدّعي الجمال رغم دمامته بـ«قالوا للبغل مين أبوك؟ قال الحصان خالي». أمّا إيلاء أهميّة لحدث لا يستأهلها فيختصر بـ«الجنازة حامية والميت كلب»، والمبالغة في الكلام عن الألم الجسدي بـ«عرج الجمل من شفتو»، والانتظار طويلاً عبثاً بـ«عيش يا كديش لينبت الحشيش»، وشكوى امرئ من دعوته إلى مناسبة مقابل خدمات معيّنة يؤديها بـ«عزمو الحمار عالعرس، قال لهم يا لنقل المي يا لنقل الحطب»، ومحدودية نفوذ من يكثر الثرثرة بـ«الكلب اللي بعوي ما بعضّ»، وتعايش شخصين لا ينتميان إلى المستوى الفكري عينه بـ«عيشة الفهيم مع البهيم داء سقيم!».
هذه «الموشحات» الكلامية الرنّانة المذكورة آنفاً تحيل إلى عنصر آخر من مكوّنات خطابنا قوامه الأوصاف القاسية، على غرار صفة الوجه العبوس «البوم» و«ورقة النعوة» أو استعارة «بيقطع الرزق» لهذه الغاية، وتكنية من لا يفقه معنى الكلام بـ«معلّق السطل»، ومن يتصرّف بانفعالية من دون تقدير الموقف بـ«الترين» أي القطار، والزوج المخدوع العارف بخديعة شريكته بـ«مركّب قرون»، والنافذ بـ«بيدبح بضفرو»، وعديم النفوذ بـ«إجر كرسي»، والأخلاق غير الحميدة أو الأوضاع السيئة بـ«زفت»، فضلاً عن العبارات «النوعية» للدلالة على مواقف محدّدة، من باب قول: «لحس المبرد» لمن يضطر إلى القبول ما يفوق قدرته على التحمّل و«فلت البزاق» لزحمة الناس في الحر، و«البرطيل بحلّ دكّة القاضي» لتأثير الرشى الفعّال في مجتمعنا الزبائني، و«الموس وصلت للدقن» عند الاستشعار بالخوف، و«تضرب» أو «آكلة تاكلك» و«بدي دعوسك» و«بدي اقبرك» و«بدي موتك» و«بدي افرمك» و«سدّ بوزك» و«اخرس» في مجال الضيق ذرعاً من الآخر، من دون القفز عن مفردة «الخوازيق» التي تطلق على العوائق التي تعترض طريقنا وأهدافنا، وعبارات «سمّ البدن» عند سماع ما لا نتمناه و«أكلت الضرب» عند التعرّض إلى موقف خسارة مدبر، و«الدم الأزرق» للحديث عمّن يكتنف الحقد داخله، و«كلبان عالمصاري» لمن يستسيغ الطرق غير المشروعة للحصول على المال، و«إيدو بالكرم بوكس» للإشارة إلى البخيل. كما ترد مفردة القفا بلفظها العامي في جزء لا يُستهان به من كلامنا: فهل من صورة مجازية مدوية أكثر من «جرس ع (ط..) بغل» لقذف من يعجز عن حفظ السر، ومن «(…) النقّالة منّا شغّالة» لمن يبدّل مكان عمله بصورة مستمرة ب و«(…) بفرد لباس» لتعريف مستوى العلاقة الوطيد الذي يربط فردين.
وتمتد المفردات «السلبية» إلى الغزل ولو من دون تداعيات غير محمودة العواقب، لتحضر «تقبرني» أو «تقبر قلبي» و«بموت فيك». ويعزّز السلاح من وصف الأنثى ذات العينين الشبيهتين بـ«جوز مدافع» أو «الرصاص» أو «البازوكا» أي قاذف الصواريخ، أمّا الجسد فينال حصته من «دبابة» و«خزّيق» و«نار». وترمى عبارة «اللي بيرميك بوردة براسو بخرطش فردي» بيسر قول «حبّك حمّاري!». ويتطوّر هذا الخطاب ثقيل الوطأة ليواكب العصر عبر عبارات يستخدمها المراهقون والشباب حالياً، تبيّن أن الظرف التاريخي الذي يعيشه المرء والثقافة العامة السائدة يبدّلان في طريقة استعماله للغة، على شاكلة: «شو هالجسد يا أسد» و«شو هالطّعجة يا نعجة» و«جمالك وقّف الحمار بنص الطلعة» و«تجوزني يا ديك تا جبلك صيصان»، من دون إغفال كلمة «كسر» المستعارة من محال بيع قطع السيارات المستعملة عند الحديث عن قبح فتاة ودمامتها أو «كاتيوشا» لتبيان القوة! ويدلي المتحدّث المفوّه بدلوه عند ذكر المذهبين الأكثريين، مستعيراً من «الفولت» الكهربائي قوّة 110 لتكنية من ينتمي إلى المذهب السني و220 لمن ينتمي إلى المذهب الشيعي.

اللغة بريئة

وإذا كانت اللسانيات تميّز بين اللغة أو اللسان من جهة وبين الكلام أو الخطاب من جهة أخرى، يشرح أستاذ علوم اللغة واللسانيات الفرنسية واللسانيات المقارنة في الجامعة اللبنانية وأمين عام اتحاد المترجمين العرب د. بسّام بركة «أنّ اللغة مجرّدة وعامّة، وبالتالي لا يمكن وصفها بالعنيفة أو القبيحة أو الإرهابية، بل يتعلّق الأمر بالخطاب أو الكلام الذي يحقّق هذه اللغة ويمكن تحليل مضمونه ووصفه بصفات عدّة. فاللغة بريئة في هذا السياق، وهي مطواعة إلى أبعد الحدود، ويمكن استخدامها للقذف أو السب أو الهجاء، كما للمدح والحب»، مضيفاً «أن ثمة مستويات عدّة من تحقيق اللغة العربية يشمل أحدها اللهجات التي تتعدّد في لبنان وتختلف إما صوتياً وإما كلامياً وإما في السياق النحوي، ما يبرز المصدر الجغرافي أو الديني لمتحدّثها».
وفي محاولة لتشريح ظاهرة العنف اللفظي عند اللبنانيين ومصدر الاستعارات المفرطة من عالم الحيوان، يورد نظرية «سابير وورف» L›hypothèse Sapir-Worf، ومفادها أن رؤية العالم عند المرء ترتبط ارتباطاً عضوياً ببنيات وتراكيب ومفردات لغته. ويقدّم، مثالاً على ذلك، الفروق بين مجرى النهر التي تجعل لهذا الأخير مجموعة من التعابير في اللغة الفرنسية (النهر الكبير Fleuve والنهر الصغير Rivière)، فيما وعي الفرد الذي يتحدّث العربية لا يميّز بين حجمي النهر لأنّ ثمة مفردة واحدة للتعبير عنه في لغته (نهر). وينسحب الأمر على بعض الألوان التي تغيب مفردات تدلّ عليها في بعض اللغات ما يجعل متحدّثها لا يراها. بالمقابل، للجمل تعابير عدّة في قاموس العرب القدامى، في حين تقتصر هذه المفردة على لفظين في اللغة الفرنسية ما يصعب فهم هذه الصنوف على متحدّثها. ولكن هذه النظرية، لا تنفي حسبه، حقيقة حرية استخدام اللغة في خطاب عنيف أو مسالم وفق ثقافة ومقاصد المتكلّم. ويتابع تحليله، قائلاً: «إن الاستعمال التاريخي للغة يولّد الأمثال العامية والعبارات الجامدة Expressions figées، ما يدلّ على مسار زمني من رؤية العالم، ليس انطلاقاً من اللغة حصراً بل من استعمال هذه الأخيرة في مواقف معيّنة، ليبرز في هذا الإطار تداول أسماء الحيوان أو أعضاء الجسد بوفرة في خطابنا». ويؤكد «أن تحليل العنف في مضمون كلامنا اليومي يبيّن ارتكازه على الاستهزاء والسخرية وتحقير الآخر، ما يشير صراحة إلى الحال النفسية الاجتماعية التي يعيشها المتحدثون باللهجات اللبنانية».

الشخصية القاعدية اللبنانية

بدوره، يحيل أستاذ علم النفس الاجتماعي في الجامعة اللبنانية د. طلال عتريسي إلى مصطلح «الشخصية القاعدية» المستخدم في علم النفس الاجتماعي لتحديد السمات المشتركة بين أفراد مجتمع معيّن، موضحاً «أن العبارات السلبية تشغل جزءاً من الشخصية القاعدية اللبنانية، بدون إغفال التفاوت في استخدامها حسب البيئات والأوساط». ويعدّد، في معرض ذكر الأسباب المسؤولة عن سلاطة لساننا، كلّاً من العجز عن ضبط الانفعال على المستوى النفسي والحال النفسية التي تستوجب العلاج والاعتداد بالنفس على المستوى الاجتماعي والعجز عن الصبر والتحمّل على عدم تحقيق المبتغى، وأخيراً العادة المكتسبة نتيجة العيش ضمن بيئة معيّنة. ويقول: «إن الركون إلى استخدام هذه المفردات السلبية في خطابنا اليومي يجعلها تتحوّل إلى حجر الزاوية في الثقافة اللبنانية العامّة ومحطّ كلام لا يقود دوماً نحو العنف المباشر، ولو أن مضمونه يكتنف على معاني التحقير والتهديد والاستكبار وقليل من التحفيز (كما في حال الأم التي تصف ابنتها بالبقرة لحثّها على خفض وزنها) والتودّد (مناداة الحبيب تقبرني أو قوله بموت فيك)». ولكن هذا التوضيح لا يفوته عن ذكر مساوئ الإفراط في استخدام هذه التعابير، وأبرزها «توليد الاستنفار والاستفزاز اللذين يوشكان على نشر العداء بين الأفراد!».
ويحتّم غياب السلطة المركزية المتمثّلة في قانون حازم وعادل، برأيه، «تعزيز النزعة الفردية، وبالتالي العجز عن تحمّل الآخر، ما يساهم في نشر العنف اللفظي أو العنف الرمزي، حتى لو لم يكن الموقف يستدعي الأمر». أمّا استخدام الكلام التحقيري في التربية ووصف «فلذات الأكباد» ببعض أسماء الحيوان (قرد وتيس وحمار…) أو التوجه إليهم بعبارات التهميش (اخرس وسدّ بوزك وانقبر…)، فيعيده إلى البيئة الخارجية التي تتعامل معنا على هذا النحو، ما يجعلنا ننقل الأمر إلى دواخل بيوتنا، بعفوية تامّة!

السابق
لن تتغير سوريا وإيران إلا إذا توحد شعباهما
التالي
ترو: موضوع الكهرباء تقني ولسنا امام أزمة حكومية