مليون امرأة حول العالم مجهولات المصير!

في العام 1990 نشر الاقتصادي الهندي الشهير أمارتيا سين دراسة في نشرة نيويورك الدورية للكتاب بعنوان "أكثر من 100 مليون امرأة مجهولات المصير". ويتناول سين في دراسته نسب النساء اللاتي يتعرضن للعنف في الهند والصين ودول أخرى من العالم النامي. ولشرح الأرقام التي أوردها في دراسته، أثار سين مسألة "الإهمال" الذي تتعرض له النساء في العالم الثالث والتمييز في العناية الصحية والتغذية والتعلم. كما أشار إلى أن في ظل سياسة "الطفل الواحد" للعائلة الصينية، "هناك بعض الأدلة التي تؤكد تعرض النساء للوأد". ولم تأت الدراسة على ذكر عمليات الإجهاض.

وبعد 20 عاماً على الدراسة، ارتفع عدد النساء "مجهولات المصير" إلى أكثر من 160 مليون امرأة، ووفّرت لنا الصحافية الشهيرة مارا هفسيتندال صورة أوضح عما حدث في كتابها "تحديد غير طبيعي: اختيار الصبيان على البنات ونتائجه على العالم". وكما تشير في عنوان كتابها، تقول هفسيتندال إن معظم النساء مجهولات المصير لم تكن ضحيات الإهمال لكن تم اختيارهن من الوجود عبر تقنيات التصوير الصوتي والإجهاض في الفصل الثاني من الحمل.

ويتم وصف انتشار عملية اختيار الإحهاض وفقاً لجنس الجنين على أنه قضية علمية حديثة تم إساءة استعمالها نتيجة ثقافات سلطوية أبوية ذكورية كارهة للنساء. ومن المؤكد أن السلطة الذكورية الأبوية جزء من القصة، لكن كما تشير هفسيتندال فإن الواقع أكثر تعقيداً وإحباطاً.

ولغاية اليوم، يبدو أن تعزيز المرأة بشكل عام أدّى إلى المزيد من التمييز الجنسي ضدها. وتقول هفسيتندال في كتابها "في العديد من المجتمعات تستغل النساء استقلاليتهم المتزايدة لتحديد ذكورية جنينها لأن ذريتها الذكورية تعزز من وضعها الاجتماعي". وفي بلاد مثل الهند، فإن تحديد جنس الجنين بدأ في "المجتمعات المدنية ذات التعليم العالي قبل أن ينتشر إلى أسفل السلّم الاجتماعي".

وأكثر من ذلك، فإن بصمات الحكومات الغربية والمؤسسات الخيرية واضحة في معظم روايات اختفاء النساء في العالم.
فمنذ الخمسينات، قامت الدول الآسيوية بتشريع ومن ثم الترويج لعمليات الإجهاض بدعم واضح وتمويل أميركي. وفي مراجعة لأرشيف مجموعات مثل "مؤسسة روكفيللر" و"الاتحاد الدولي لتنظيم الأسرة" تصف هفيستندال تحالفاً غير متوقع بين قدامى المحاربين الجمهوريين القلقين من أن يؤدي الارتفاع في عدد السكان إلى انتشار الشيوعية والعلماء ذوي الانتماء اليساري، والناشطين الذين يعتقدون أن الإجهاض ضروري بسبب "حاجات النساء" و"الازهار المستقبلي أو ربما استمرارية الجنس البشري" كما عبّر عنها المدير الطبي للاتحاد العالمي لتنظيم الأسرة في العام 1976.

وبالنسبة للعديد من مؤيدي تحديد النسل، فإن اختيار جنس الجنين كان ميزة إذ ان مجتمعاً يقل فيه عدد النساء غير قادر على الإنجاب والتكاثر بشكل كبير.
ويتضمن كتاب هفيستندال مقاطع غير مريحة من أجنة النساء المتروكة في احد مستشفيات الهند، إلى اليافطات التي انتشرت في عز حملة تحديد النسل بطفل واحد للعائلة في الصين (يمكنك ضربه! يمكنك أن تدعيه! يمكنك أن تجهضيه! لكن لا يمكنك إنجابه!) غير أن المقاطع الأكثر إثارة هي تلك التي تصف الغربيين التقدميين الذين يحاولون إقناع أنفسهم بأن المجتمعات المكتظة بالسكان في دول العام الثالث بحاجة إلى عدد أقل من النساء.

وبشكل عام، يمكن اعتبار كتاب هفيستندال بأنه قصة تحقيقية رائعة كتبت انطلاقاً من الحس المعنوي الطارئ الذي يصاحب عادة الكشف عن بعض الجرائم الكبيرة.

لكن أي نوع من الجرائم؟ هذا هو السؤال الذي يتلازم مع كتاب هفيستندال ومع الموضوع الأكبر الذي يتعلق بالجدل الكبير حول اختفاء 160 مليون امرأة.
وحجم الرقم المذكور يذكّر بفظائع جرائم الإبادة الجماعية التي وقعت في القرن العشرين. وبغض النظر عن عمليات السلب التي مارسها المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني، فإن معظم عمليات الإجهاض كانت تتم من دون إكراه. لقد ساهمت المؤسسة الأميركية في خلق المشكلة لكنها اليوم أصبحت منتشرة بمفردها: تحوّلت حركة مراقبة النسل إلى ظلال لنفسها السباقة، ومع ذلك فإن تحديد النسل انتشر بشكل كبير مع إمكانية الإجهاض ولم تعد نسب الجنس متوازنة من آسيا الوسطى إلى دول البلقان والمجامعات الآسيو- أميركية في الولايات المتحدة الأميركية.

وهذا وضع العديد من الليبراليين الغربيين الذين ضمتهم هفيستندال في كتابها في موقع من الواضح أنه غير مريح، وهؤلاء يصرون على أن الأجنة ليسوا أناساً بعد وأن الحق بالإجهاض شبه مطلق تقريباً. وبما أنها تعلن عن نفسها مشككة بموعد بدء الحياة، تصر هفسيتندال أنها لم تؤلف كتاباً "عن الموت والقتل" لكن ذلك ما يجعلها تصارع من أجل تحديد الضحية في الجريمة التي كشفت عنها.
وتقول إن الضحية هي المجتمع إجمالاً، مشيرة إلى أن البلدان التي تفتقد إلى التوازن الجنسي تميل إلى أن تكون عنيفة وغير مستقرة. وتضيف أن هذه البلدان التي افتقرت إلى التوازن في نسبة النساء في المجتمع، تعاني من زيادة في حجم البغاء والاتجار بالجنس.

هذه نقاط مهمة، لكن الشعور بالغضب الذي يعتري كتابها يبدو أنه كان موحى به من قبل الفتيات أنفسهن، وليس بسبب نتائج غيابهن.
ومن هذه الناحية، تبدو الجهة المعارضة للإجهاض مرتاحة أكثر. يمكننا القول مجاهرة ما تتم الإشارة إليه تلميحاً في كل صفحة من كتاب "تحديد غير طبيعي" حتى لو أن مؤلفته لم تكن قادرة على إيضاحة بل حاولت التحايل عليه.

ومأساة النساء الـ 160 مليوناً مجهولات المصير حول العالم ليس في أن "مصيرهن مجهول". المأساة هي أنهن أموات.

السابق
من استفاد من اغتيال رفيق الحريري؟
التالي
تجديـد لليونيفيـل ولا تغييـر فـي قواعـد الاشـتباك