اللعبة أكبر من لبنان..جاهزون لأي طارئ.. وتحت أمر القيادة

يعي جمهور المقاومة في لبنان حجم التحدي المصوّب نحوه، والممتد منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 حتى اليوم. محطات كثيرة في مسار هذا التحدي المرسوم بعناية والمخطوط بلغات أجنبية عديدة وعربية معروفة، واجهها هذا الجمهور بصبر وإيمان راسخين بحكمة قيادته، وثقة مطلقة بقراراتها وتوجهاتها.

فصل اليوم من ذلك المسار، لا يختلف كثيراً عما سبقه من تحديات نفسية واجتماعية واقتصادية وحتى عسكرية وأمنية. عدوان تموز 2006 تجربة حيّة، آثارها لا تزال حاضرة في الضاحية الجنوبية «زنقة زنقة ودار دار»، تتجسّد أمام أهلها شبحاً هلامياً ثلاثي الأضلاع قوامه: الآلة العسكرية «الإسرائيلية»، الأمم المتحدة وقراراتها، ومن خلفها «أُم الفيتو أميركا» ـ كما تحلو تسميها هنا في الضاحية ـ إضافة الى الأذرع الداخلية التي شكّل رئيس حكومة عدوان تموز فؤاد السنيورة أطولها آنذاك.

فصل اليوم من ذلك المسار، يؤلم أهالي الضاحية وخصوصاً أهالي بلدة الغبيري ـ كنموذج مصغّر عن الضاحية الجنوبية ـ حيث الأكثرية شيعية، وما يقارب الـ 20 بالمئة من السنّة لهم ممثليهم في المجلس البلدي وعدد من المختارين. وفيها خليط سياسي وعقائدي وفكري متنوّع، من مناصرين لحزب الله وحركة أمل ـ بطبيعة الحال ـ وللحزب السوري القومي الاجتماعي، الى مناصرين لتيار المستقبل وبعض الجماعات الإسلامية والحركات اليسارية، فضلاً عن شريحة واسعة من المستقلين.

لكن ما يؤلم أهالي الغبيري أكثر، شعورهم باستهداف يطال خيارهم الى جانب ـ بل في قلب ـ المقاومة ومواجهة الاحتلال، وهم الذين يفاخرون بتصدي أبنائهم البطولي لجيش الاحتلال «الإسرائيلي» الذي حاول اقتحام الغبيري عام 1982، فانبرت إلى مواجهته ثلة من أبناء الغبيري الأبطال (من السنة والشيعة) الذين حققوا الإنجاز وصدوا العدوان ونفذوا «مجزرة» بما كان يعرف آنذلك بـ»الدبابة بطابقين ـ الميركافا» التي كانت جديدة على المقاومين في ذلك الحين ـ والتي لا تزال أثار جنازيرها ماثلة على أحد جدران أزقة البلدة الى اليوم، وحولوا من بداخلها الى أشلاء ـ 16 قتيلاً من جنود الاحتلال ـ

ما اضطر الغزاة الى الفرار، وفشل يومها الغزو «الإسرائيلي» للضاحية الجنوبية من بوابة الغبيري، وقد شكّلت هذه الحادثة في الوعي الجماعي لأهالي الغبيري، امتداداً طبيعياً أوصل الى «مجزرة الميركافا» في وادي الحجير إبّان عدوان تموز عام 2006.

اليوم، يشعر أهالي الغبيري بغربة عن تاريخهم وواقعهم، حين تتهافت كاميرات وسائل الإعلام الى أزقة البلدة بحثاُ عن العميل (م . ح) ابن البلدة، الذي أعلن عن اكتشافه الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله داخل صفوف المقاومة. لكنهم يضعون هذه الحادثة في سياقها الطبيعي ضمن الحرب المفتوحة مع العدو «الإسرائيلي»، تلك الحرب التي تشهد «طلعات ونزلات»، لكنهم لا يستسيغون طعم ظلم ذوي القربى، الأشد مرارة والأكثر غصةّ.

على رصيف أحد الأزقة، وتحت صورة أحد شهداء المقاومة المنتشرة فوق كل عالٍ من مرتفعات الغبيري، يتحلّق عدد من تلامذة الشهيد عماد مغنية و»المطلوب» إلى المحكمة الدولية مصطفى بدر الدين حول «فنجان شاي». تدور أحاديث كثيرة عن المقاومة ومراحل تأسيسها والصعوبات التي مرّت بها، وقصص عن بطولات المواجهات مع قوات الاحتلال وعملائه داخل الشريط الحدودي، وأخرى عن أيام التدريب والمعسكرات والطرائف التي كانت تحدث والتي كانت تنتهي بعقوبة الزحف أو سير «البطّة». يقطع أحدهم حديثاً امتد وأصبح مملاً، ليأخذنا في رحلة الى تجربته الخاصة يوم كان مكلّفاً بإحدى المهمات في إطار عمله المقاوم، حين حدث ما لم يكن في الحسبان وداس على أحد الألغام المزروعة إلى جانب الطريق، وقال: «الشباب لمّولي إجري من فوق سطح أحد البيوت».

لا يجادل أولئك المتسامرون، بإمكانية ضلوع «الحاج مصطفى ولا أحد الأخوة الذين ذكرت أسمائهم»في عملية اغتيال الحريري، فـ»الشباب كرّسوا وقتهم وجهدهم لله عبر مقاومة أعدائه الصهاينة». وعند السؤال عن إمكانية أن تكون المجموعة التي اتهمتها المحكمة الدولية بالضلوع في الاغتيال، مجموعة غير منضبطة خرجت عن إرادة القيادة كما حصل مع بعض الذين كشف عنهم السيّد نصرالله، يبتسم «الأخوة» ابتسامة الواثق والعارف في آن: «نحن نتكلم عن الحاج مصطفى والحاج رضوان، «مش عن حدا تاني»، فهؤلاء وأمثالهم هم من وضع الأسس الحديثة للعمل العسكري المقاوم، ووضعوا الخطط والاستراتيجيات لمواجهة أي عدوان»، يضيف أحدهم: «طيب أنا معك، لو فرضنا أن أحدهم خارج عن إرادة القيادة وهو مخترق وينفّذ أجندة غير أجندة المقاومة، فكيف نفسّر نجاح الخطط العسكرية التي وضعوها في دحر الاحتلال ومن ثم هزيمته في تموز؟ وكيف نفسّر اغتيال الشهيد الحاج رضوان والتخلّص منه؟ واليوم كيف نفسّر سعي أميركا و»إسرائيل» الى الحاج مصطفى ورفاقه تمهيداً للقضاء عليهم؟». ويقول آخر: «بدي ذكرك بس.. من نتكلّم عنهم الآن هم من دوّخ الموساد والسي آي أيه لعشرات السنين، وهم أيضاً من رصدت أجهزة الاستخبارات العالمية ملايين الدولارات لمن يعطي ولو معلومة واحدة عنهم.. وفهمك كفاية».

لا يكثر الشباب الحديث عن السياسة وتفاصيلها، ولا عن الطائفية والمذهبية وتوظيفها، فجلّ حديثهم عن الأمر صمت، وبعض صمتهم إيماء بليغ يوصل الرسالة بأدق تفاصيلها وأعمق معانيها لمن يريد أن يفهم ويسعى الى الحقيقة، «اللعبة أكبر من لبنان ونحن جاهزون لأي طارىء وتحت أمر القيادة»، ومن ثم ينصرفون الى الحديث عن التحضيرات العسكرية والتدريبات القائمة على قدم وساق لمواجهة أية حماقة «إسرائيلية»، لكنه حديث مُحرّم على مسامع العامة، ومن النوع الذي يبقى في إطار الذين خَبِروا الميدان وتعمّدوا بدم العدوان.
بعيداً عن دماثة الشباب وكياستهم، ولكن في صلب الموضوع نفسه، تجتمع ثلة أخرى من الشباب في أحد مقاهي الغبيري، يتحلّقون حول «نَفَس أرجيلة» ويتناولون طبقهم الرئيسي: القرار الاتهامي واتهام حزب الله. يدركون أنها «مؤامرة كبيرة تستهدف رأس المقاومة» ويربطون بين ما جرى وما يدور في سورية من محاولات لإسقاط قلعة الممانعةً والمقاومةً. الجو ساخن بحسب حرارة «النارة» والحديث مشحون بثقة كبيرة بأن المقاومة وقادتها «يا جبل ما يهزّك ريح».

يقول أحد الحاضرين متهكّماً: «هلق الحاج مصطفى والشباب ما كان وراهم شي إلا مي شدياق ليحاولوا اغتيالها، ويتركوا «إسرائيل» والدنيا كلها وراهم»، ويضيف: «القصة مكشوفة يريدون إلهاء المقاومة عن مقارعة «إسرائيل»، بصراعات داخلية، ويريدون تحويل رموزها الى مطلوبين».

يعبّر آخر عن خشية انزلاق الوضع الى صراع طائفي ومذهبي داخلي «وقتها بيصير بلال عدونا ونأخذه أسيراً» ويضيف ممازحاً موجّهاً كلامه الى بلال (الشاب السني ابن الغبيري): «شو بتعمل إذا أخذناك الآن الى المستودع تحت الأرض وطلبنا فدية من سعد الحريري مقابل إطلاق سراحك؟». يجيب بلال: «لا دخيلك الحريري مفلّس هالأيام، بتروح عليًّ وما حدا بيطالب فيّ وبتفشل عملية التبادل»، ويضيف: «لن تنزلق الأمور الى ما هو أسوأ، فالجميع مدرك أن المحكمة سياسية بامتياز، وأن الهدف منها تحسين شروط التفاوض السياسي لا أكثر ولا أقل».

تختصر أحاديث الشارع العادي في الغبيري ما يدور في عقل وذاكرة أنصار المقاومة، فالجميع يُحلّل ويقارن ويطابق المعلومات ولا يوجد بينهم من هو ساذج بسيط «تمرّ عليه مقولة ان العدالة الدولية يجب أن تأخذ مجراها».
وتفيد هذه الأحاديث، بأننا اليوم لسنا أمام فيلم مصري، تأتي الشرطة في آخر المشهد، حينما يموت البطل، وتلقي القبض على الأشرار. إنما «نحن اليوم في خضم مواجهة مع المحكمة الدولية بالوكالة عن «إسرائيل» التي فشلت عسكرياً في تموز، وسياسياً في عدة مراحل منذ اغتيال الحريري الأب حتى إسقاط حكومة الابن». وبحسب خلاصة سهرة الشباب في ذلك المقهى البسيط: «نحن موجودون هنا وفي كل مكان، جاهزون أن نملاْ الساحات، حاضرون للتضحية بكل ما يلزم.. يروح بلمار وجماعته يبلّطوا البحر، كما بلّطه قبلهم لبنانيو سوليدير».

السابق
الرئيس نفى عن سورية التهمة مئة في المئة
التالي
عندما يُتهم الشيعة ظلماً بقتل الزعيم السنّي