المتسولون «يَستوطنون» الإشارات الحُمر..وعلى «عينك يا دولة»!

التسول في لبنان

تشير الأضواء الثلاثة في إشارات المرور (الأحمر، الأخضر، الأصفر) الموضوعة في تقاطعات الطرق، وأماكن عبور المشاة، إلى تنظيم السير. فالأصفر يعني الاستعداد للتوقّف، والأحمر يعني التوقّف، والأخضر يعني الانطلاق. أمّا في لبنان، فلربما هناك معانٍ أخرى، فما أن يضيء اللون الأصفر حتى يستعد عشرات الأطفال المشرّدين، كلٌّ بعدّته إيذاناً بالهجوم على السيّارات، يضيء اللون الأحمر فيتهافتون من كل حدبٍ وصوب، هذا يغسّل زجاج السيارة، وذاك يعرض على السائق بضائع حملها في قفص بلاستيكي، وآخرون يحملون مناديل ورقية، وقناني مياه معدنية صغيرة، وسجائر، و دمى، وأقراص مدمجة لعدد من المطربين والفنانين، وورود، وغيرها من البضائع، لبرهة يحسب السائق أنه في متجر كبير.
وبين العرض الممزوج بالتوسّل والترجّي والاستعطاف، والاستجداء على وقع دعوات ما أنزل الله بها من سلطان، وبين حياء السائق وخجله، يُخرج محفظته عنوة. فتتحملق عيونهم أيّهم يستنزفها أكثر، وعينا السائق على الإشارة الخضراء، المفرّ الوحيد من هذا المأزق.
إنها مافيا التسوّل المتستّر بقناع البيع المخملي، حالها حال الكثير من المافيات التي تتحكم بالبلد، من المولّدات إلى الفانات والدّراجات الناريّة، وسماسرة العقارات والشقق السكنية، وتجّار المواد الغذائية والخضار والدولار إلخ…

مافيا التسوّل المتستّر بقناع البيع المخملي حالها حال الكثير من المافيات التي تتحكم بالبلد من المولّدات إلى الفانات والدّراجات الناريّة وسماسرة العقارات والشقق السكنية


أعمارهم الصغيرة، ومكوثهم في الطرقات حتى منتصف اللّيل، بل حتى بزوغ الفجر أحياناً، أثارا فضولي، ما دفعني إلى أن أدنو منهم لأطرح بعض الأسئلة المشروعة، والتي لم ألقى عليها منهم غير الصمت، والهروب خوفاً من شخصٍ ما، هو “المعلّم” كما يلقّبونه. وعندما يُحرجهم السؤال يتنصّلون منه بحنكة ودهاء، أو يدفعون به إلى الآخر على قاعدة من هالك لمالك لقبّاض الأرواح. فمن هو قبّاض الأرواح؟ أو المعلّم؟ أو المشغّل الذي يرتكب هذه الجريمة؟ حيث يحوّل الأطفال الأبرياء إلى متسوّلين ومتسكّعين يتربّصون بالمواطن، ليظفر الأول بالمال، والجّاه، فضلاً عن المآرب الأخرى التي قد يتوخاها بعض المشغّلين كالأعمال الأمنية، وترويج المخدّرات، وتسهيل الدّعارة، وغيرها من الموبقات…
وبعد عدّة محاولات باءت بالفشل، رحت أقتفي الأثر متقصّيًا عن آفةٍ من الآفات الجسام التي يئنُّ منها المواطن اللبناني، مستعينًا ببعض سائقي الأجرة لاحتكاكهم المباشر معهم طيلة اليوم.
البداية كانت مع أبو محمد (سائق تاكسي منذ ٣٠ سنة) الذي أخذنا بجولة مكّوكيّة بين كاليري سمعان، وكنيسة مار مخايل، وجسر المطار، ومصلبيّة مار الياس، وجسر الكولا… حيث يتوزّع أغلب المتسوّلين في العاصمة بيروت وضواحيها.
يقول: “انت اليوم حطّيت إيدك عالجرح لأن طفح الكيل… فهمنا انّو ما حدا عم يسمع، طيب ما حدا عم بيشوف؟؟؟ غريب هالبلد… متلّايين البلد، ما في إشارة أو تقاطع إلا عليه عشرة أو خمسة عشر طفل مشرّد… عشوي بتفكرهم فاتحين دكاكين ويا ويلك اذا ما اشتريت بكون عن يدعيلك بيصير يدعي عليك”…

التسول ظاهرة تتفاقم في لبنان


وعن جنسيتهم يجيب: مش لبنانيّة… ولا مرّة صادفت لبناني كلهم أجانب (سوريين)، أو عرب رحّل (نَوَر)، أو مكتومي القيد”… أمّا سكنهم فهم يتوزّعون بين الرحاب والاوزاعي والجناح وخلدة ومخيمات صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة… يتنقلون منها إلى نقاط عملهم عبر سيّارات أجرة، تقلّهم ذهاباً وإياباً، في أوقات يحدّدها شخص ما غير المشرّد، الذي ليس له حول ولا قوّة لرفض الأمر ولو رجع بلا مصاري الله يستره.
على تقاطع كنيسة مار مخايل اقترب أحد الأطفال بيده قنينة ماء وهو يردّد عبارة: “بَوْرِدْ بَوْرِدْ” ليقول بلهجة غريبة: “تشتري مي يا حاج؟” فأجبته: لا أحتاج عندي ماء. فقال: اشتري مرة ثانية الله يخليلك ولادك. نظرت إليه بألمٍ وحرقة وسألته: كم عمرك؟ فقال: والله ما بعرف… فسألته عن أبيه فقال: أبي بالبيت. قلت له متعجّباً: أبوك في البيت وأنت في الشارع!!! قال: نعم. قلت له: لمصلحة من تعمل؟ فابتعد عن السيارة قليلاً وفرّ هارباً… ضحك أبو محمد، لكنّ قلبي بكى، لماذا خاف الصبي؟ وما الضير من طرح هذا السؤال ؟؟؟

من الطبيعي أن يكون هناك عدد من المشرّدين الذين يحملون الهوية اللبنانيّة لكن بنسبة ضئيلة جدًّا مقارنة مع غير اللبنانيين


انتقلنا إلى جسر المطار على مقربة من أحد الحواجز الأمنية حيث ينتشر عشرات المشرّدين تحت الجسر وفوقه، أعمارهم تتفاوت بين رضّع اتّخذتهن بعض الفتيات وسيلة للتسوّل، ورجال ونساء بلغوا سن الهرم. أقلّ ما يُقال عنهم أنهم اجتمعوا على هدف واحد هو استنزاف جيبة المواطن، ناهيك عن الأهداف الأخرى التي قد يستفيد منها المتربّصون بأمن البلد، وتجّار المخدّرات، ومشغّلي الدعارة، إلخ… باعتبارهم قد يكونوا لقمة سائغة، للقيام بأي عمل يُطلب منهم مقابل مبالغ زهيدة نوعاً ما.
وبين هذا وذاك، يقع العراك… ضرب بالعصي والسكاكين ورشق بالحجارة وشتائم وسباب، وعلى عينك يا تاجر… مستغلّين “شحارهم وتعتيرهم” المتعمّدين… فهذا يستغل إعاقة ما وذاك يستغل كِبر سنّه وتلك تستغل طفل صغير إلخ… أمّا أصعب استغلال شهدته في حياتي فكان عندما دنت فتاة لم تتجاوز العاشرة من عمرها، تحمل بيدها علبة مناديل ورقية من أحد السائقين، محاولة أن تثيره بكلام خادش للحياء طمعاً ببضعة ليرات، في مشهد يدمي القلب والوجدان.
ترجّلت من جولتي… تائهاً، تخالجني تساؤلات جمّة؟؟؟ أين جمعيّات حقوق الطفل والإنسان؟؟؟ أين جمعيّات المجتمع المدني؟؟؟ أين الدولة؟؟؟ هل فُقدت الإنسانيّة؟؟

إقرأ ايضاً: تصعيد اسرائيلي يحصد 7 شهداء بعد خطاب نصرالله..و«تباين تكتيكي» بين بايدن ونتانياهو حول غزة!

وفي هذا السياق، اكد مصدر مطّلع “على خطورة هذه الظاهرة الغريبة عن المجتمع اللبناني، الذي يعتبر من أكثر المجتمعات المتماسكة رغم الأزمات المستجدّة والخانقة”، مشيراً إلى أنه “من الطبيعي أن يكون هناك عدد من المشرّدين الذين يحملون الهوية اللبنانيّة لكن بنسبة ضئيلة جدًّا مقارنة مع غير اللبنانيين، وهذه النسبة تتضائل أكثر عند الأطفال”. مشدّداً على ضرورة مواجهة هذه الظاهرة للحدّ منها، محمّلاً الحكومة وجمعيّات المجتمع المدني مسؤولية التقصير، معللاً السبب في عدم وجود مؤسسات رعائية مختصة في هذا المجال في لبنان”.
طبعاً “عذرٌ أقبح من ذنب” … على أمل أن يستفيق اللبنانيون يوماً على دولة ترعى مصالحهم وتعالج همومهم….

التسول عند الاطفال تديره مافيات كبرى
السابق
حملة غرافيتي في شوارع بيروت تحمل هاشتاغ: #مابدنا_حرب
التالي
موز «ملغوم» في المرفأ..ضبط كوكايين باز بملايين الدولارات!