حارث سليمان يكتب ل«جنوبية»: حقوق الإنسان وقيم العالم 

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

ما هي القيمة العليا التي ترفعها عاليا أية جماعة؟! هل هي الارض، اي ارض الجماعة؟ واذا كانت هذه الجماعة موجودة في كيان سياسي وقانوني، تصبح القيمة العليا هي الوطن، اي الشعب والارض، واذا اضيف الى العنصرين السابقين؛ نمط العيش وإستقرار ابواب الرزق والخدمات العامة والرعاية، تصبح الدولة كشكل مكثف ومتناسق، يحتوي جميع العناصر السابقة، هي القيمة العليا للجماعة والأفراد على حد السواء…

 لا يفترض إعلاء شأن الدولة كقيمة فضلى لأي شعب، توحيد ثقافته، فالثقافة حتى تستحق اسمها، لا ينبغي أن تتوحد وتتنمط في قالب واحد ومرجعية معرفية منفردة… لكن في مرحلة سيادة منطق ونموذج الدولة القومية، وما اصطلح على تسميته Etat- Nation،  والتي كانت ثمرة للثورة الصناعية الأولى، نشأت ثلاثة ظواهر بشكل متلازم، إعلاء شأن الأمة، وتميز كل شعب بلغته وتراثه وثقافته الوطنية، سيادة الدولة على حدودها وداخل حدودها، وحماية الإنتاج الوطني وفتح آفاق الأسواق الخارجية، حتى لو ادى ذلك الى حروب طاحنة ودموية … لم يعد ذلك في اماكن عديدة من العالم، الا ارثا من عصر مضى، او حنينا إيهاميا لاستحضار نماذج، غير قادرة على المنافسة والتقدم.

كلما ازدادت الدولة تقدما وحداثة توسعت فردانية المواطن وتعمقت حقوقه كإنسان

الدولة الراهنة في الطور الجديد من الرأسمالية، هي دولة ما بعد الدولة الوطنية او الكولونيالية، الحكومات فيها تحولت من تبني النظريات والأيديولوجيات، ومن خوض الصراعات الفكرية الى جانب الفعل السياسي، تحولت الى حكومات ادارية، ترعى مصالح الشركات المتعددة الجنسيات، وتنظم انسياب الرساميل والسلع والأفراد  وفرص العمل عبر الحدود الدولية، وترعى حرية التجارة العالمية … هذا لا يعني ان صفة كولونيالية الدولة أو سيادتها الوطنية قد اختفت تماما، بل انها تطل بمظاهرها وممارساتها، في العديد من الأزمات الدولية الراهنة؛ من اوكرانيا الى غزة وأزمة تايوان، كما استعادت الدولة الوطنية قلق الحاجة إلى تدخلها الناشط، بعد تفشي جائحة كورونا وتداعياتها، وعلى الرغم من ذلك، فإن العولمة وتسييل حركة الاقتصاد، ورأس المال وفرص العمل ومراكز الإنتاج، مازالت هي الظاهرة الأشمل، المتصاعدة بشكل متزايد وعميق، على الرغم من ان هذه الأزمات، قد حملت ارتكاسات خطيرة لظاهرة العولمة وآلياتها المتناغمة، مع مصالح رأس المال المعولم في الغرب كما في الشرق.

السؤال الذي يحتاج الى تدقيق واختبار، هل حقوق الانسان في فضاء العولمة، اصبحت قيمة عليا في كل مكان من الكوكب، وهل اصبح الانسان هو القيمة العليا في حياة الارض وشعوبها؟!

الجواب طبعا على السؤالين هو بالنفي للاسف!! فرغم سيادة الرأسمالية وامتداداتها، كنمط اقتصادي ومالي وانتاجي وتجاري، في كل أنحاء الكوكب وبلدانه، الا ان احدى اهم ثمار الرأسمالية، وهي الليبرالية والديموقراطية، والاعتراف بالآخر الفرد وحقوقه كافة، وإعلاء قيمة الحياة البشرية، ما زالت غائبة في مجالات الثقافة والسياسة والعدالة والعلاقات الدولية. فهذه المسائل والقيم، مازالت غائبة ومنتقصة بشكل نسبي، في العديد من بلدان العالم الثالث وخاصة العالم الإسلامي، ومازال إنتهاك فردية الفرد ممكنة وسهلة، وتجد تبريراتها المختلفة.

الدولة الحديثة الجديدة تنجح وتدوم، بقدر ما تنجح بإدارة وتَمَثُلْ اتجاهات ونوازع ثقافية متنوعة، بل ان الدول الأكثر حداثة ونجاحا، هي الدولة، التي بعد أن ترعى مصلحة الجماعة العليا، وحماية وجودها وضمان استقرارها ونموها، تقوم بالعناية وإبراز وتشجيع ابداعات الفرد ونوازعه، كمركز للابتكار والانتاج والاختراع في المجالات البحثية الجديدة، من اقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي والنانوتقنية، وكلما ازدادت الدولة تقدما وحداثة، توسعت فردانية المواطن، وتعمقت حقوقه كإنسان، وازدادت نواحي هذه الحقوق، لتتضمن أبعادا قانونية وفكرية وسياسية واقتصادية، وصحية، وتتوسع افقيا لتتجاوز حدود الدول، وتتخطى الكيانات السياسية، وتتخذ صفة العالمية. 

بقدر ما تتبلور فردانية الفرد حرية وابداعا، وحقوقا سياسية وثقافية وصحية واقتصادية، بقدر ما تتجاوز هذه الحقوق الحدود الوطنية للدول وتصبح ذات أبعاد عالمية.

الانسان وحقوقه المشرعة على الابعاد كافة، هي القيمة العليا التي تتقدم متدرجة ببطء، لكن بشكل دائم ومتصاعد، لتحتل حيز الأخلاق العامة وقيم النخب في كل أرجاء العالم.

 صحيح ان سياسات حكومات العالم والدول الغربية منها، لا ترتسم وتنفذ انطلاقا من شرعة حقوق الإنسان، ومن مقاييس العدالة ووحدانية المعايير، بل تخضع الى التواءات خطيرة، تتطلبها المصالح الدنيئة لإقتصادات هذه الدول، و استثمارات شركاتها و أسواق مصانع أسلحتها ، إلا ان حقوق الإنسان وشرعتها، ما زالت هي الفضاء المعلن و الملزم اخلاقيا، لتعامل النخب والمجتمعات الحديثة، مع الأزمات والحروب والخلافات السياسية والصراعات المختلفة …

وقد أظهرت ازمة غزة، والانقلاب السياسي في مواقف الحكومات في الغرب، بين اليوم الاول لحرب غزة، حيث ايدت هذه الحكومات، اسرائيل بحماسة شديدة، بل جندت امكانياتها واعلامها، وقواتها وترساناتها المسلحة، لدعم اسرائيل في الرد والانتقام وممارسة كل انواع القتل. 

لم يدم هذا الموقف طويلا وتحت ضغط من رأي عام فاعل ومتحرك وحازم انتقلت مواقف الحكومات تدرجا وتحولت الى موقف آخر تماما

لم يدم هذا الموقف طويلا، وتحت ضغط من رأي عام فاعل ومتحرك وحازم، انتقلت مواقف الحكومات تدرجا، وتحولت الى موقف آخر تماما. يجاهر بتأييد دولة فلسطينية طال انتظارها، وانطلقت تصريحات حازمة تدين الممارسات الاسرائيلية، وتدين قتل الانسان الفلسطيني، وتخصص بالإدانة استهداف المستشفيات والأطقم الطبية، ومدارس إيواء النازحين، وتعتبر قتل النساء والاطفال وتجويعهم، وإجلاءهم من أحيائهم وتهجيرهم بالقوة والحصار والعنف، جرائم حرب موصوفه في القانون الدولي، وشروع سافر بممارسة الابادة الجماعية.

من جانب “حماس” وإعلام الممانعة تظهر قيم أخرى لا تتعلق بالانسان وحقوقه ولا بشروط عيشه ولا بعمران احيائه

من جانب “حماس” وإعلام الممانعة، تظهر قيم أخرى، لا تتعلق بالانسان وحقوقه، ولا بشروط عيشه ولا بعمران احيائه، او بتأمين استشفائه وطبابته او تعليم ابنائه، او بتعرضه وأفراد عائلته، للجوع والقتل والفقر والبرد والمهانة…

فالحرب شنت من أجل المسجد الاقصى، وليس من أجل الانسان الفلسطيني، و المسجد الاقصى له قدسية دينية اسلامية، حيث أسرى اليه ليلا الرسول محمد ( ص) وعرج الى السماء من كنفه، ويجري بشكل حثيث ويومي، التركيز على قدرة “كتائب القسام” والمقاومة، على ادامة الاشتباك مع جيش الاحتلال، وتقدم خسائر العدو بجنوده وآلياته، كإنجازات كبيرة وهامة، دون تبيان تأثير هذه الخسائر على ميزان القوى، بين المقاومة والعدو، فهل انتجت المواجهة العسكرية خللا في اداء المؤسسة العسكرية الصهيونية، او وهناً في قدراتها، طبعا لم يحدث ذلك!!

فالحرب شنت من أجل المسجد الاقصى وليس من أجل الانسان الفلسطيني و المسجد الاقصى له قدسية دينية اسلامية

 كما يجري تصوير العدو مأزوما ومهزوما، رغم نجاحه في اجتياح المدن وتدمير الحجر والبشر، وارتكاب ابشع انواع المجازر والمذابح، والمفارقة الكبرى، ان تزعم قوى المقاومة تحقيق الانتصار، في وقت تلهث ساعية لوقف اطلاق النار، وانهاء العمليات العسكرية، ويجري بشكل متكرر استعراض تضحيات المدنيين وآلامهم، والمذابح التي ينفذها جيش الاحتلال، من اجل الوصول الى هدنة تحفظ الانسان الفلسطيني، وما تبقى من حقوقه ككائن بشري…

 على الرغم من ذلك  تبقى القيمة العليا لدى قوى الممانعة، ليس هذا الإنسان وحقوقه، بل السلاح والعنف، وبدل ان يحمي هذا السلاح انسان فلسطين وحقوقه، يتبدى ان آلام هذا الانسان، وكارثته الشاملة واصراره على الحياة والبقاء في ارضه، هي القوة الاخلاقية التي تسمح لهذه المقاومة بأن تبقى عاملة، تمارس فعلا سياسيا ودورا في خوض الصراع.

حقوق الانسان الفلسطيني باتت معيارا اليوم لإستتباب حقوق الانسان كقيمة عليا عالمية

لم يدن الرأي العام العربي والدولي جرائم اسرائيل ومجازرها الوحشية، نصرة لحركة “حماس” او الجهاد الاسلامي، ولا استنكارا لتدنيس المجسد الاقصى، ولا إعجابا بمهارة يحي السنوار العسكرية، ولا طربا لخطابات ابو عبيدة وبلاغته اللغوية، لقد هدرت مئات الآلاف من أصوات الاحرار في عشرات المدن العالمية، بشرقها وغربها، دفاعا عن الانسان الفلسطيني وحقوقه الثابتة في الحرية والكرامة الانسانية، وحقه في وطنه وتقرير مصيره واقامة دولته، فحقوق الانسان الفلسطيني باتت معيارا اليوم، لإستتباب حقوق الانسان كقيمة عليا عالمية.

السابق
التصعيد الميداني يُسابق المفاوضات في الجنوب وغزة..وباسيل «وحيداً» بعد «الجفاء» مع «حزب الله»!
التالي
غارة حولا تابع.. حزب الله ينعى الأب والإبن!