ألم تحن قيامة لبنان من «حفرة» 14 شباط 2005؟!

اغتيال رفيق الحريري

جسّد الرابع عشر من شباط في العام ٢٠٠٥، مرحلة مفصلية في تاريخ لبنان الحديث، تمخّض عنها حراك جامع وعابر لكل طوائف لبنان ومناطقه. و شكّل بذلك ولادة لانتفاضة، نادت بسيادة لبنان و”حتمية” انعتاقه، من أيّ وصاية خارجية تحوّله إلى “أُضحية”، يُفدّى بها لصالح أجندات إقليمية. بتعبير أدق، لم يكن ما حصل في هذا اليوم عادياً، وإنما استثنائيّ ومصيريّ في الوقت عينه. فتجلّى أحد أهم تداعياته في إطلاق “يقظة” وطنية. لقد تبلور ما يمكن تسميته، ب”الأنا” الجمعي الوطني، الذي تجاوز الفردي والطائفي والمحلّي!…
ولسنا هنا في صدد مقاربة سياسية، لما آل إليه هذا الرابع عشر من شباط، و إنما كان لا بدّ من الإشارة الموجزة والسريعة إلى انعكاساته، التي شكّلت بدورها حدثاً يمكن تسميته بالإستقلال الثاني للبنان.

صحيح أنه لا يمكن اختزال مصير وطن، في شخص زعيم أو مسؤول أو حتى أمين عام… وهذا ما أكّد عليه رفيق الحريري في قوله الشهير: “ما حدا أكبر من بلدو”…… إلا أن ما عاشه لبنان من أزمات، بعد هذا “الرحيل” ولايزال على المستويات كافة، الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي و التربوي….. يطرح إشكالية حول ما إذا كانت حياة وطن و معه مستقبله، يُختزلان في رحيل أو حضور شخص!….

لم ينادِ الرئيس الشهيد بشعار “لبنان أولاً” من فراغ، أو لنقل من أجل البروباغاندا، بل عمل على ترجمته من خلال تشديده على تطبيق الدستور اللبناني، ومناداته بسيادة لبنان، وبنهائيته كدولة. فكان رجل دولة بامتياز.

لم ينادِ الرئيس الشهيد بشعار “لبنان أولاً” من فراغ أو لنقل من أجل البروباغاند، بل عمل على ترجمته من خلال تشديده على تطبيق الدستور اللبناني


وأما بالنسبة إلى الشراكة الوطنية الجامعة، فقد احتلّت أولوية لدى الحريري، بسبب إيمانه بأن العيش المشترك، ليس فقط ضمانة لاستقرار لبنان، و إنما أيضاً صون للتنوّع الثقافي، الذي يمتاز به هذا الوطن عن سائر الدول العربية. ومن هذا المنطلق، عمل على تنمية الرأسمال البشري من خلال ما قدّمه من منح دراسية جامعية داخل لبنان و خارجه، إيماناً منه بأن العلم هو الدعامة الأساسية لتقبّل الاختلاف واحترامه، اللذين استهدفتهما الحرب الأهلية، نتيجة ماغرسته من تعصّب طائفي عند السواد الأعظم من اللبنانيين.

إقرأ أيضاً: الحركة «شريك مضارب» للحزب..وكادر عسكري لـ«جنوبية»: لسنا أتباعاً وعقيدتنا مختلفة!

كذلك الأمر، لم يختصر الرئيس الشهيد الشراكة الوطنية بالكمّ، أي بالنسبة المئوية لكل طائفة. لقد نزع عن هذه الشراكة الصبغة الحسابية، بعدما كانت مرهونة بعمليات احصاء. فبالنسبة إليه، إن اتفاق الطائف لم يكن “لإيقاف الحرب و إنما لإيقاف العدّ”. وهنا يمكن القول أنه أعطى الشراكة الوطنية هوية جديدة، عابرة للحدود العددية بين طوائف لبنان، بحيث اعتبر أن المناصفة بين مسيحيي لبنان ومسلميه، هي ضمانة للبنان لا تحتاج إلى “ضرورة” المساواة الرقمية التي تحول مواطنيه كافه ألى “قطعان”. لقد نادى الحريري بكل ما يؤسس لدولة مدنية قوية بمؤسساتها، وعمل على ترجمته عملانياً.

لم تقتصر إنجازات الرئيس الشهيد، على تعليم الآلاف من الشباب اللبنانيين بطوائفهم كافة فحسب، بل رأى أيضاً في إعادة اعمار ما قضت عليه الحرب الأهلية، وخصوصاً في العاصمة بيروت، اعادة انطلاقة حياة لبنان و معها حياة مواطنيه.

لم تقتصر إنجازات الرئيس الشهيد على تعليم الآلاف من الشباب اللبنانيين بطوائفهم كافة بل رأى أيضاً في إعادة اعمار ما قضت عليه الحرب الأهلية انطلاقة حياة لبنان ومواطنيه


وفيما يتعلّق بالعروبة، تمسّك رفيق الحريري بهويته العربية. وشدّد أيضاً على هوية لبنان العربية، و عمل على تعزيز روابطه مع الدول العربية باعتباره جزءًا من المحيط العربي.
تجاوز الرئيس الحريري حدود لبنان، باعتباره إبن النادي السياسي الدولي، فشكّل وجوده ضمانة أكبر للدعم الدولي للبنان. و تبدّى ذلك من خلال العمل على استقطاب مواقف دولية داعمة لسيادته خصوصاً أثناء العدوان الاسرائيلي. ومن هذا المنطلق، يمكن القول أنه لم يكن رجل دولة فحسب، و إنما رجل “مقاومة” وطنية بامتياز.
وتقودنا مقاربة حياة الحريري السياسية إلى القول، بأنه لم يعرف الخذلان و يرتضِي به، فكان أن دفع حياته ثمناً للمطالبة بسيادة لبنان.

الحريري وقع في عثرات كأي رجل سياسي لكنه أثبت أنه شخصية استثنائية في قدرته على التخطيط والتنفيذ

و لا يخفى من أن الحريري وقع في عثرات، كأي رجل سياسة، أثناء اعتماده لبعض السياسات سواء كان في الشأن الاقتصادي، أو الإدارة العامة، أو حتى في تعرّضه لابتزاز مراكز القوة والوصاية الخارجية ، وخصوصاً السورية، إلا أنه بالتأكيد كان صاحب رؤية ومشروع، لبناء دولة قادرة على حماية سيادتها و مؤسساتها . و أثبت أنه شخصية استثنائية في قدرته على التخطيط والتنفيذ رغم كل العقبات…..
خلاصة، ترجم الرئيس الشهيد في شخصه السيادة، والاستقلال ، والعلم ، والاعتدال والمقاومة ، و الاعمار، والشراكة الوطنية ، فما كان من استشهاده، إلا أن خطا لبنان في طريق طويل من الآلام، امتدت على مدى تسعة عشر سنة، و لايزال…..
ألم يحن الوقت لقيامة لبنان من حفرة الرابع عشر من شباط ٢٠٠٥؟

رفيق الحريري
رفيق الحريري
السابق
سباق مع الزمن لتفادي الأسوأ: مستقبل الجنيه المصري في ظل التحديات الراهنة
التالي
سياسة التحوُّط: حسابات الصين إزاء التصعيد في الشرق الأوسط