زياد عبد الصمد يكتب لـ«جنوبية» عن كريم مروة: مدرسة نضالية

كريم مروة ونديم عبد الصمد

تسنى لي من خلال عملي في شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية، نسج علاقات مع مجموعة من الزملاء والأصدقاء والرفاق المثقفين والمناضلين والحقوقيين، في عدد من الدول العربية. حرص كريم مروة على التواصل معهم بشكل دائم، خاصة بعد انطلاق الربيع العربي. أحب الاطلاع منهم على التطورات التي تجري في المنطقة، ما يساعده على فهم وتحليل الأوضاع ومآلاتها. لم يتوان عن إسداء النصائح وابداء الملاحظات، عندما دعت الحاجة الى ذلك. وكان حريصا على التواصل مع الشباب، لأنه أراد لهم الاستفادة من تجاربه الغنية الناجحة منها والفاشلة.

قبيل انطلاق الربيع العربي، اعد كريم مروة مشروعا لتأسيس مجلة فكرية ثقافية عربية ينخرط فيها المثقفون والمناضلون من الدول العربية، تأسيسا لمشروع عربي للتغيير الديمقراطي والتحرر من الاستبداد، وتحقيقا للعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، كما كان يقول.

كان كريم مروة مواظبا بنهم على علاقاته الاجتماعية وصداقاته القديمة فتابعها حتى الرمق الأخير من حياته

اعد وثيقة تفصيلية، ضمّنها شرحاً وافياً للفكرة والأهداف وآليات العمل، ومستلزمات المشروع من موارد مادية وبشرية وتقنية. فكانت له لقاءات ثنائية وجماعية معهم، سعيا وراء تطوير الفكرة وتحقيقها. الى ان اندلع الربيع العربي حاملا احلاما بمستقبل زاهر ، قبل ان يتحول الى مأساة بسبب تمسك القوى الرجعية بزمام السلطة، وعداء القوى التقليدية للديمقراطية فتأجل مشروعه. سأله يوما أحد الزملاء من تونس، عن المشروع وكان قد بلغ من العمر عتيا، فكان جوابه الفوري: أجلناه مؤقتا الى ان تتحسن الظروف.

كان مواظبا بنهم على علاقاته الاجتماعية وصداقاته القديمة، فتابعها حتى الرمق الأخير من حياته.

كان صديقا مقربا من العائلة، فكانت تربطه علاقة وثيقة بعمي نديم، حيث كانا معا من ضمن المجموعة الشبابية، التي أنجزت التحول التاريخي في الحزب الشيوعي اللبناني، في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي، واستمرت علاقاتهما فكان كريم يقول عن نديم “صديق عمري”، وفعلا استمرت علاقاتهما حتى وفاة العم صيف العام 2020.

بعد تنحيهما من مسؤولياتهما الحزبية أواخر تسعينات القرن الماضي، انخرط نديم في المنبر الديمقراطي، ومن ثم عمل على تأسيس اليسار الديمقراطي مع رفاقه، وكان كريم قد انصرف الى الكتابة والعمل الفكري، مستندا الى المخزون الكبير والتجربة الغنية، لنقد التجربة والمساهمة في تأريخ المرحلة التي عاصرها. اذكر انني التقيته بعيد انتفاضة 14 اذار، فقال لي ممازحا “الفرق بيني وبين عمك انو نديم إله جلادة بعد”.

إقرأ ايضاً: خاص «جنوبية»: هذا ما دار في «كواليس» بري وهوكستين!

نشأت بينه وبين والديّ علاقات رفاقية، وطدتها صعوبات أيامِ العمل السرّي، وتحديّات الحرب الاهلية، فتحولت الى الكثير من الود والاحترام.

والدي كان نقابيا وناشطا في العمل الجماهيري، والدتي كانت في الحركة النسائية، ونشطت في التحالفات اللبنانية والعربية، وكانت تربطهما علاقات متينة بالقيادة خاصة خليل الدبس، وكان يسكن في الجوار، وطبعا مع كريم وغيرهما. كلاهما بدآ العمل الحزبي السري أوائل خمسينات القرن الماضي فجعلا من منزلهما، محطة للقاءات القيادة السرية، وأحيانا اختبأت فيه شخصيات عربية لجأت الى لبنان، هرباً من جور الأنظمة الاستبدادية. فكانا موثوقين ومؤتمنين على الكثير من المعلومات السرية، بما في ذلك خلال حصار بيروت، وغداة احتلالها من قبل إسرائيل عام 1982 وانطلاق جمول.

لم ينقطع كريم عن زيارتهما لتبادل الذكريات، واستعادة محطات النضال الكثيرة، والاحداث التي عاشوها بحلوها ومرها. كثيرا ما كان يتصل بهما او يأتي لزيارتهما، سائلا عن حادثة هنا او مستذكرا رفيقا هناك، للحصول على معلومة مفيدة او للتدقيق ببعض الوقائع، التي كانت تنقصه لإتمام مقالة او كتاب. وغالبا ما كان كاس العرق جاهزا مع مازة من حواضر البيت، وكانت ام باسم ماهرة في تحضيرها.

كانت لقاءاتهم سعيدة، يتناقشون في السياسة وفي الأمور الاجتماعية، ويتلو عليهم أبو باسم آخر قصائده، وغالبا ما كان نديم ينضم إليهم لتكتمل الجوقة. فتعيدهم هذه اللقاءات في الذاكرة الى “أيام النضال الحقيقي، حيث كان المناضلون يضحون بكل ما يملكون بلا مقابل، في سبيل قناعاتهم وانتصارا للقضية الوطنية التي التزموا بها”، كما كانوا يقولون. استمرت علاقاتنا به حتى بعد وفاة الاهل، الى اخر يوم من حياته تماما، كأنه كان فردا من افراد الاسرة.

كريم هو الانسان المثقف، الذي احكم الربط بين الجهد النظري والثقافي، مع الممارسة السياسية، انطلاقا من القناعة الراسخة بان المشروع الوطني والقومي، يتطلب حاضنة فكرية وثقافية، فطور علاقات واسعة مع فنانين ومثقفين لبنانيين وعربا، طالما استفاد منها الحزب لتطوير وتعزيز نضاله الوطني والقومي.

كريم هو الانسان المثقف الذي احكم الربط بين الجهد النظري والثقافي مع الممارسة السياسية انطلاقا من القناعة الراسخة بان المشروع الوطني والقومي يتطلب حاضنة فكرية وثقافية

لعب دورا قياديا في مختلف مراحل العمل الحزبي، من مرحلة العمل السري الى العمل الديمقراطي والجماهيري، الى العمل العسكري، وتابع عمل جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، وصولا الى جهوده الحثيثة والجريئة، في نقد التجربة برمتها منذ أواخر الثمانينات.

تميز بانسجام قناعاته الفكرية والسياسية مع ممارساته اليومية. لم يهادن ولم يتوان عن طرح أفكاره وآرائه، بجرأة الثائر وهدوء المثقف وتواضع العالم، فلم يخرج عن حدود اللياقة حتى مع الد خصومه.

شكل حالة مميزة ومستمرة من العمل والنشاط الفكري والثقافي والنضالي. ساعدته إرادته الصلبة وذاكرته الحية وحبه للحياة. لم يتوقف انتاجه حتى اخر رمق من حياته. فكرس المرحلة الأخيرة منها للكتابة منتجا 45 كتابا، ودزينة من الكتب التي لم تطبع وعددا من المخطوطات التي لم تنشر. وكأني به أراد بكل ما اوتي من قوة، توثيق تجربته الغنية ومعرفته المتنوعة، ونقلها الى الأجيال القادمة، التي امن بها ايمانا حقيقيا، فأراد لها ان تستمر في النضال، دفاعا عن قناعاتها من اجل حياة أفضل.

هذا هو كريم مروة الذي عرفته، لا يتوقف عن التفكير والإنتاج الفكري والثقافي، واقتراح النشاطات والمبادرات، وهو سيبقى حاضرا بإنتاجه الفكري والسياسي الغزير.

السابق
العاصفة «حنين» تزداد شراسة..امطار غزيرة وثلوج على 1500 متر!
التالي
هذه هي احوال الطرق الجبلية اليوم !