القاهرة وترتيبات ما بعد الحرب في غزة

غزة

بعد سنوات من التوتر في العلاقات، وطرح اسم حركة المقاومة الإسلامية “حماس” ضمن حيثيات المؤامرة الإخوانية على مصر، شهدت سنة 2017 تحولاً لافتاً في مسار العلاقات بين القاهرة و”حماس”، بالتزامن مع المواجهات الدامية بين الجيش المصري والجماعات الإرهابية في سيناء، إذ أبدت “حماس” تجاوباً كبيراً مع الأجهزة الأمنية المصرية، ونجحت في السيطرة على حركة تسلل الجهاديين وتهريب الأسلحة من غزة إلى سيناء، كما قدمت معلومات مهمة عن الطرق التي يسلكها المسلحون في جنوب رفح.

“حماس” أصدرت في السنة نفسها وثيقة المبادئ والسياسات العامة التي ضمت مجموعة من المراجعات، كان أبرزها فك الارتباط بجماعة الإخوان المسلمين في مصر، الأمر الذي ساهم في المزيد من التقارب بين الحركة والأجهزة الأمنية المصرية.

في المقابل، أبقت القاهرة على معبر رفح مفتوحاً، واتخذت جملة من الإجراءات لتسهيل عبور الأفراد، ودخول البضائع إلى القطاع المحاصر، وشهدت السنوات اللاحقة لقاءات واجتماعات شبه دورية مع قادة “حماس”، وأدت دوراً كبيراً في التوصل إلى أكثر من وقف لإطلاق النار في كل مرة ينفجر فيها الصراع مع إسرائيل، وظهر نفوذ مصر لدى “حماس” بصورة لافتة في سنة 2021، في إثر نجاح القاهرة في الظهور كوسيط فاعل في الصراع.

العمق الجيوسياسي وآليات التدخل

تملك القاهرة ميزة استراتيجية تدعم وضعها كوسيط لا يمكن الاستغناء عنه؛ إذ تسيطر على معبر رفح، المنفذ الوحيد الذي يربط قطاع غزة بالعالم، وعلى الرغم من أن الاتفاقية التي تنظم التنقل والعبور، الموقعة في سنة 2005، تنص على وجوب وجود ثلاثة أطراف عند الجانب الفلسطيني من المعبر (السلطة الوطنية الفلسطينية، وإسرائيل، والاتحاد الأوروبي) بالإضافة إلى انسحاب الاتحاد الأوروبي والسلطة الفلسطينية في إثر سيطرة “حماس” على القطاع في سنة 2007، فإن مصر قد التزمت إبقاء المعبر مفتوحاً أمام الفلسطينيين.

وفي إثر الأحداث الدامية التي عقبت عملية طوفان الأقصى، وجدت القاهرة نفسها في قلب العاصفة، وكان عليها أن تواجه احتمالين غاية في الخطورة: الأول هو المخطط الإسرائيلي المدعوم من الولايات المتحدة، والذي يقضي بإخلاء كلي أو جزئي للقطاع، ودفع اللاجئين تجاه سيناء. أمّا الثاني، فهو الفراغ الأمني الممكن في قطاع غزة، في حال نجحت إسرائيل في القضاء على حركة “حماس”.

وثيقة مسربة نشرتها منصة “سيشا مشوميت” الإسرائيلية كشفت خطة طرحتها الاستخبارات الإسرائيلية لتهجير الفلسطينيين إلى شبه جزيرة سيناء

في مواجهة المخطط الأول، أبدت القاهرة منذ اليوم الأول رفضها القاطع للمخطط الإسرائيلي، وبحسب مصدر مطلع، ضغطت الولايات المتحدة على مصر لفتح حدودها مع غزة للسماح بإجلاء مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى سيناء، وهو ما رفضته القاهرة بإصرار، الأمر الذي أثار حفيظة واشنطن، لكن تقارير عسكرية مصرية وُضعت أمام الرئيس اتفقت كلها على ارتفاع منسوب الخطر إلى اللون الأحمر في حال سمحت القاهرة بإخلاء جزئي أو كلي للقطاع، وتدفق اللاجئين تجاه سيناء.

ويُذكر في هذا المضمار، أن وثيقة مسربة نشرتها منصة “سيشا مشوميت” الإسرائيلية كشفت خطة طرحتها الاستخبارات الإسرائيلية لتهجير الفلسطينيين إلى شبه جزيرة سيناء، وهو أمر دفع القاهرة إلى التحرك بكثافة على المحاور كافة لمنع استنساخ تداعيات التهجير القسري، وطرد المقاومة من أرضها الطبيعية.

تداعيات الفراغ الأمني في قطاع غزة

في مواجهة الاحتمال الثاني، تدرك القاهرة أن القضاء على “حماس” في غزة سوف يفضي إلى وضع مضطرب على حدودها، فاستئصال الحركة بصورة نهائية أمر يبدو مستحيل الحدوث، على الأقل من الناحية الأيديولوجية، وهو ما يعني أن أي ترتيبات أمنية في القطاع لا تضم “حماس” لا يمكن لها أن تحقق الاستقرار. كما ترى القاهرة أن السلطة الفلسطينية لا تمتلك الخبرات أو القدرات الأمنية التي تمكنها من ضبط الحدود معها كما تفعل “حماس” منذ سنة 2017. علاوة على ذلك، فإن أي كيان أمني سوف يدير القطاع مستقبلاً، رغماً عن “حماس”، سوف يدخل بالضرورة صداماً مسلحاً معها.

في هذا السياق، وبحسب تقرير نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال”، رفض الرئيس السيسي، خلال اجتماعه مع مدير وكالة الاستخبارات المركزية ويليام بيرنز في 7 تشرين الثاني/نوفمبر، مقترحاً أميركياً بأن تقوم القاهرة بإدارة الأمن في قطاع غزة بصورة موقتة بعد الحرب حتى تصبح السلطة الفلسطينية مستعدة لتولي المسؤولية. أمّا القاهرة، فلا ترى سوى العمل على تحقيق التوازن بين دعمها للسكان المدنيين في غزة، والعمل على تدفق المساعدات الإنسانية عبر معبر رفح، ومواجهة مخططات التهجير، مع الضغط بقوة من أجل التوصل إلى هدنة طويلة الأمد، من أجل عدم السماح بتدمير “حماس” كلياً، بحيث تشمل ترتيبات ما بعد الحرب اتفاقاً فلسطينياً على إجراء الانتخابات، وتحقيق مصالحة باتت إجبارية، حتى لو تطلّب الأمر انضمام “حماس” والجهاد إلى منظمة التحرير الفلسطينية.

ويبدو أن القاهرة لا ترتاح لتواجد تركيا في غزة، وخصوصاً أن الرئيس التركي أعلن استعداد بلاده للمشاركة في إدارة القطاع من الناحية الأمنية، في وقت لا يزال فيه الوجود التركي في ليبيا يمثل هاجساً مقلقاً للقيادات العسكرية المصرية. وبحسب مصادر مطلعة، فإن مصر طرحت خيار وجود قوة أوروبية أو أميركية لحفظ الأمن في القطاع، وهو أمر لم تتحمس له واشنطن، التي تدرك أن قواتها سوف تصبح هدفاً انتقامياً لفصائل المقاومة، وللشعب الغاضب في غزة.

القاهرة لا ترتاح لتواجد تركيا في غزة لذلك طرحت مصر خيار وجود قوة أوروبية أو أميركية لحفظ الأمن في القطاع وهو أمر لم تتحمس له واشنطن

وبناء عليه، ربما تضطر مصر في نهاية المطاف إلى الاضطلاع بدور أمني ما في قطاع غزة، ربما بالشراكة مع قوات عربية، بعد الحصول على ضمانات كافية من حركة “حماس” بعدم خرق أي اتفاق مستقبلي للتسوية، أو استهداف تلك القوات، مع سرعة التوصل إلى اتفاق فلسطيني/فلسطيني يمكّن الفلسطينيين من إدارة القطاع مرة أُخرى.

شراكة تنقصها الثقة بتل أبيب

لن تضحي القاهرة بشراكتها السياسية والاقتصادية مع تل أبيب، وإن كانت لا تثق في أي حال بنوايا الحكومة اليمينية الحاكمة، لكنها تراهن على سقوط نتنياهو في أسرع وقت ممكن، من أجل مباشرة التعاون الذي وصل إلى مستويات قياسية إبان الحرب على الإرهاب التي شهدتها سيناء، إذ سمحت تل أبيب للقاهرة بدخول قوات نوعية ثقيلة إلى المنطقة “ج”، بل أيضاً زعمت تقارير أميركية أن إسرائيل تدخلت لدى الولايات المتحدة لإلغاء الحظر النسبي لجزء من المساعدات عن مصر، عقب الإطاحة بالرئيس محمد مرسي سنة 2013، وأنها تعاونت عسكرياً مع القاهرة لشن ضربات جوية سرّية في سيناء ضد أهداف إرهابية.

إن هبوط مستويات الثقة إلى الحد الأدني بين القاهرة وتل أبيب لا تعني فض الشراكة الاستراتيجية التي تراها واشنطن ضرورية لاستراتيجيتها في الشرق الأوسط، لكن الغضب الشعبي جرّاء المحرقة التي ارتكبتها الحكومة اليمينية في غزة لن تسمح للقاهرة بتطوير مناسيب التعاون الأمني مع إسرائيل، علاوة على ثقل المهمة الملقاة على عاتق القاهرة، والمنافسة الإقليمية على الملف من جانب أطراف إقليمية على رأسها قطر. كل هذا يضع مصر في مفترق طرق لحظي وحاد للغاية، لا يمكن عزله عن سياق التحولات الإقليمية الحادة في الإقليم، والتحركات الإخوانية الرامية إلى العودة إلى المشهد من جديد عبر شعارات المقاومة والممانعة، بصفتها حصان طروادة الذي ربما يحمل الجماعة إلى السطح مرة أُخرى.

في المقابل، ومع عودة تدفقات الغاز الإسرائيلي إلى مصر إلى مستويات ما قبل الحرب على غزة، فإن الأمور ربما تشي بعودة الهدوء إلى العلاقات بين الطرفين، عقب التصعيد الذي شهدته العلاقات في الأسابيع الأولى للحرب، وخصوصاً مع التطمينات التي أطلقتها السفيرة الإسرائيلية في القاهرة، وتراجع المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي عن دعوته الفلسطينيين إلى إخلاء قطاع غزة والتوجه إلى سيناء، ويبدو أن تل أبيب تفضل تواجداً أمنياً مصرياً في غزة، على الرغم من كل ما يعتري ذلك من مخاطر الانفلات من الأوامر، في ضوء الحوادث المتقطعة التي شهدتها الحدود بين مصر وإسرائيل، لكن كل هذه الترتيبات تبقى سابقة لأوانها، في ظل حالة السيولة وعدم الحسم، وكذلك عدم وضوع الرؤية لدى الأطراف الإقليمية الفاعلة.

السابق
وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: فلسطين ضرورة أية نهضة عربية
التالي
بالصور: إسرائيل تنتقم من البشر والحجر!