التلاعب بمصير الكيان واستغلال الـنزوح السوري والعبث بالقضية الفلسطينية تجاوز الخطوط الحمر

ميشال عون

بعد ثلاثين عاماً، وبعهدة نوابه الأربعة ترك رياض سلامة حاكمية المصرف المركزي وغادره مكرّماً على أنغام الزفة اللبنانية وتصفيق الموظفين الذين عملوا معه. لم يختلف الأمر عنه مع ميشال عون قبل تسعة أشهر، عندما غادر القصر الجمهوري على أيقاع دقات الطبول وهتافات حشود مناصريه، تاركاً موقع الرئاسة شاغراً وصلاحياتها في عهدة حكومة تصريف الأعمال. ما يجمع بين الرجلين، ليس صيغة مغادرتهما موقع المسؤولية فحسب، ولا الفراغ الذي تركاه خلفهما، إنما الإرث الثقيل من الأزمات السياسية والاقتصادية والمالية الكارثية التي تعتبر الأخطر في تاريخ البلد. الحاكم الذي أدار اضخم عملية إفلاس للخزينة اللبنانية ونهب لأموال اللبنانيين، على نحو لم يسبقه إليه حاكم مصرفي مركزي أو مسؤول مالي على الصعيد العالمي، بذريعة تنفيذ سياسات أهل السلطة والاستجابة لطلباتهم. والثاني باعتباره رئيس الجمهورية الذي حكم البلد على امتداد ست سنوات، بقوة تعطيل مؤسسات الدولة وشل أجهزتها وقطاعاتها وصولاً إلى الانهيار الشامل، بذريعة استعادة صلاحيات الرئاسة، التي منعه شركاؤه في السلطة من ممارستها وحالوا دون تنفيذ اصلاحاته المُدَّعاة.

اقرأ أيضاً: خاص «جنوبية»: أجندة إيرانية سورية للسيطرة على « عين الحلوة»..وهذه خطة «فتح» للمواجهة!

ولأن أوضاع البلد لا تزال تحت وطأة مضاعفات الانهيار وتعطيل انتخاب رئيس للجمهورية والعودة للفراغ الذي سبق رئاسة ميشال عون، فإنه من غير الوارد أن تتبدل السياسات المالية مع حاكمية تصريف أعمال المصرف المركزي التي آل إليها تحمّل المسؤولية جرّاء العجز عن التوافق على تعيين حاكم جديد، لأن الطبقة السياسية التي تدير البلد ليست بوارد، ولا من مصلحتها اصلاً، إعادة النظر بأدائها وممارساتها الفئوية من مواقعها الطائفية، التي تنطق بإسمها أو تدَّعي تمثيلها في إطار نظام المحاصصة، الذي يشكل ركيزة الفساد السياسي والذي بموجبه يُحكم البلد ويعاد إنتاج أزماته وانقساماته الأهلية حول مختلف قضاياه وشؤونه الوطنية والسياسية والاقتصادية والادارية والمالية والأمنية إلخ.. كما يتجدد عبره أيضاً تسليم زمام إدارة أزماته للخارج الذي يتولى إيجاد المخارج التي تضمن مصالحه وتراعي حصص اطراف السلطة، كما كان الأمر على امتداد محطات تاريخه منذ تأسيس الكيان بصيغته الراهنة.

إدارة الخارج للأزمة

وبما أن محطات التأزم والخلافات والنزاعات الداخلية وتعطيل الاستحقاقات التي تشكل تاريخ البلد، تتقاطع دوماً مع الصراعات الدولية والاقليمية حول قضايا المنطقة ولبنان منها. فإن عجز اللبنانيين وتهربهم من تحمّل مسؤولياتهم عن معالجة أزمات البلد، لا يعود مفاجئاً. ومعه مجيء الموفدين إلى لبنان وتشكيل اللجان وتصدير البيانات التي تعكس رؤى ومصالح متعارضة، تدفع باصحابها إلى تغليب وجهة على أخرى في التعامل مع الوضع القائم. وفي هذا السياق أتت زيارة موفد الرئاسة الفرنسي لودريان لإبلاغ اللبنانيين محصلة اجتماع اللجنة الخماسية على طريقته، علّه يفلح في إحياء مبادرة دولته لإنهاء الفراغ الرئاسي والحكومي، على رافعة الدعوة للحوار حول مواصفات الرئيس القادر على تنفيذ الشروط الدولية التي تستهدف تأهيل الطبقة السياسية الحاكمة، وتمكينها خلافاً لإرادتها من معالجة الانهيار الاقتصادي عبر إقرار الاصلاحات المطلوب، وتجاوز عجزها عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية.

وبصرف النظر عن الدعوة للحوار، والتشكيك بجدواها، بفعل القراءات المتناقضة لبيان اللجنة الخماسية التي لم تتبنَ المبادرة الفرنسية التي تستجيب لشروط حزب الله، كما لم تقرر الانفتاح على إيران لإشراكها في البحث عن تسوية رئاسية تؤمن مصالح دول الخارج كافة، وتضمن حصص اطراف الداخل على قاعدة مراعاة موازين القوى القائمة راهناً والمختلة لمصلحتها، بالاضافة إلى تجديد دفتر الشروط الدولي ـ الاقليمي لمعالجة الانهيار والفراغ الرئاسي في آن. الأمر الذي رأى فيه حزب الله انتكاسة لمشروعه السياسي ومرشحه الرئاسي، فيما اعتبره الثنائي أو الثلاثي المسيحي نصراً لخياراته المتناقضة، التي اطاحت بما سمي تقاطعاً في مواجهة مرشح الثنائي الشيعي. وهذا ما استدعى هجوماً حاداً من الحزب على شروط اللجنة الخماسية باعتباره تدخلاً خارجياً بالشأن الداخلي، وكأن إيران من أهل البيت اللبناني.. بينما وجد رئيس مجلس النواب وحركة أمل أن الدعوة للحوار حول مواصفات الرئيس فتحت كوة في جدار الأزمة. أما رئيس التيار الحر فكان قد اعتبر الفرصة سانحة لتجديد التواصل مع الحزب، محاولاً عقد صفقة تلبي مصالحه، وتقطع الطريق على احتمال التفاهم على رئيس لا يرغب به الطرفان والمعني به قائد الجيش.

الثابت وفق كل المعطيات والمؤشرات ليس استطالة الفراغ الرئاسي وحسب، إنما تصاعد وتوسع حالة الفوضى التي يُحكم البلد بها. لأن الاستعصاءات الداخلية في ظل موازين القوى الراهنة داخلياً وخارجياً لا تسمح بإمكانية إيجاد تسوية ما توقف الانهيار، وتشكل مدخلاً للسيطرة على الأزمات المتعددة. خاصة وأن أكثر أطراف السلطة تتحصن بشروطها الفئوية المتناقضة، وتحتمي برهاناتها الخارجية، في موازاة استغلالها للمشكلات والقضايا المتفجرة لتبرير خياراتها وطروحاتها، وتغطية ممارساتها وخلافاتها والاستثمار فيها باعتبارها وسائل ضغط في مواجهة الآخر. ما يعني الانغلاق التام على اية تسويات. يستوي في ذلك الملف الرئاسي وصلاحيات الحكومة، ومشروع الموازنة المتأخرة، ودور حاكمية تصريف أعمال المصرف المركزي، ومشكلات الإدارة ودوائرها المقفلة بفعل الاضراب المفتوح، أو بقرارات إدارية جرّاء فضائح الفساد المستشري، وغيرها.

استغلال أزمة النزوح السوري

ومع بقاء البلد أسير مضاعفات التفكك السياسي ومفاعيل الانهيار الاقتصادي والمالي، والفلتان الأمني، يستمر التلاعب بأوضاعه والإمعان في ربطها بأزمات المنطقة. وفي هذا السياق تحولت أزمة النازحين السوريين المتواجدين في لبنان، ذريعة لتحميلهم مسؤولية الانهيار والفلتان الامني، ورفض بقائهم فيه، والمطالبة بترحيلهم خاصة من قبل احزاب المسيحية السياسية. والملف قابل للاستغلال على أكثر من صعيد. وقد تحوَّل قضية خلافية لبنانياً أولاً، ومع الجهات الدولية والأممية المعنية بشؤون النزوح السوري ثانياً. وهي التي ترى أن شروط عودتهم الآمنة إلى سوريا غير متوافرة راهناً، ما جعلها تبرر بقاءهم في لبنان، وتمارس ضغوطاً على مسؤوليه لضمان حقوق النازحين. في وقت يعجز المسؤولين عن التوافق على وجهة موحدة للتعامل مع هذا الملف، بما فيه فتح الحوار بشأنه مع النظام السوري، الذي يُتقن استغلال قضية النازحين باعتبارها ورقة ضغط في أكثر من اتجاه لخدمة مصالحه. يعني ذلك أن هذا الملف مرشح إلى مزيد من الاحتدام والتأزم، بفعل المزايدات الطائفية بين المسؤولين اللبنانيين والتحريض على النازحين، وردود فعلهم وممارسات بعضهم ومعهم الهيئات الدولية.

الاستثمار في الانقسام الفلسطيني

في المقابل ومع تعثر المفاوضات الاميركية ـ الايرانية المتكرر، وفي امتداد عجز حزب الله راهناً عن تشريع هيمنته وفرض مرشحه للرئاسة، يشكل التصعيد جنوباً في مواجهة العدو الاسرائيلي مخرجاً لمأزقه، من خلال سعيه المستمر لتكريس لبنان ساحة مواجهة مفتوحة، من خلال الإطاحة بمعادلته “الذهبية” عبر تحويل مقاومته جيشاً لا يكتفي بامتلاك الاسلحة الاستراتيجية، بل يتعمّد تنظيم المناورات والدوريات بشكل علني ومكشوف، وإنشاء مواقع ومراكز ثابتة على الحدود الجنوبية، بذريعة تحرير ما تبقى من أراض لبنانية محتلة، ما يشكل امعاناً في مصادرة القرار السياسي اللبناني بالسلم والحرب مع العدو بذريعة حماية البلد والدفاع عنه. الأمر الذي يسمح بالتساؤل عمّا تبقي من دور للجيش والشعب.

ولا يقتصر الأمر على ذلك بل يتعداه إلى إعلاء راية دعم مقاومة وصمود الشعب الفلسطيني على أرضه، تحت شعار وحدة ساحات المواجهة لتحرير فلسطين. وذلك عبر تجديد محاولات جعل لبنان مرة أخرى قاعدة انطلاق للمقاومة الفلسطينية المسلحة، خلافاً لتوجهات منظمة التحرير الفلسطينية وسلطتها الوطنية. الأمر الذي يشكل مصدر نزاع وتزخيم للانقسام الفلسطيني في وقت تكثف فيه السلطة الفلسطينية جهودها لإستعادة الوحدة الوطنية لتصعيد المواجهة السياسية والشعبية ضد مخططات اليمين الاسرائيلي المتطرف التي تستهدف تهويد اراضي الضفة الغربية والقدس، والإجهاز على حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته الوطنية المستقلة. وهو الانقسام الذي تستغله اسرائيل لتصعيد عدوانها وتسعير ممارساتها الهمجية ضد الفلسطينيين. هذا عدا الانعكاسات السلبية لتلك الممارسات على أوضاع المخيمات في لبنان، باعتبارها تشكل تلاعباً بأمنها وخطراً على وجودها وحياة المقيمين فيها، لأنها تعرّضها لأفدح الاخطار، كما هو الحال راهناً في مخيم عين الحلوة، الذي تحوَّل إلى ساحة مواجهة مع حركة فتح وما تمثله على الصعيد الوطني الفلسطيني، من قبل التنظيمات والمجموعات الاصولية العبثية التي تدور في فلك ما يسمى محور الممانعة. وهو الاقتتال الذي يهدد في حال استمراره بتدمير المخيم أسوة بما جرى في مخيم نهر البارد قبل أعوام.

الهروب من المسؤولية

إن التلاعب بأوضاع البلد على هذا النحو من قبل اطراف السلطة والتفريط بالمصلحة الوطنية اللبنانية وتصعيد الانقسام الاهلي واحتدام الاصطفافات الطائفية وبلوغ الاستعصاء الداخلي مرحلة انسداد الأفق واللاعودة عن الخيارات الانتحارية، إلى جانب انفجار الاقتتال داخل المخيمات الفلسطينية، وتسعير النزاعات مع النازحين السوريين في أماكن تواجدهم، بالإضافة لمسلسل التهديدات الاسرائيلية، معطوفاً بمجمله على حالتي الانهيار الشامل والفوضى المتصاعدة، يضع لبنان أمام مخاطر مصيرية غير مسبوقة. وما يزيد من خطورتها هو الإدارة الدولية ـ الاقليمية المتصارعة في المنطقة، وسط تكاثر الحديث عن تطورات وأحداث قادمة تستهدف انضاج الظروف الملائمة عبر تغيير المعادلات القائمة وتعديل موازين القوى في الداخل اللبناني، على نحو يسمح بصياغة التسوية الممكنة التي تحفظ مصالح الخارج ويمكن فرضها على قوى السلطة ودفعهم للقبول بها.

وإلى ذلك الحين فإن الأكلاف التي سيتحملها اللبنانيون أولاً والفلسطينيون والسوريون المتواجدون في لبنان ثانياً، ستكون باهظة الثمن وخطيرة جداً. وهذا ما يجعل التحديات التي تواجه اللبنانيين أكثر صعوبة، ليس بفعل تجاوز الخطوط الحمر من قبل قوى السلطة والخارج في التلاعب بأوضاع البلد ومصيره فقط. إنما جرَّاء عجز قوى المعارضة الديمقراطية وتياراتها الليبرالية واليسارية كافة، عن الانتساب إلى أزمة البلد والتعامل معها على نحو يمكنها من صياغة برنامج الحد الأدنى الإنقاذي، والسعي بالاستناد له لتجميع واستقطاب الفئات المتضررة، عبر استحضار حقوقها المستباحة والمهدورة، باعتبارها صاحبة المصلحة الحقيقية في بقاء البلد وإنقاذه. ولا يتحقق ذلك سوى بقوة المواجهة مع اطراف السلطة، وصولاً إلى محاصرتها، وإجبارها على إعادة النظر بسياساتها الفئوية وبممارساتها الميليشياوية والمافياوية في آن وقبل فوات الآوان.

السابق
بالفيديو.. نون لـ«جنوبية»: هكذا سنتحرك في ذكرى «4 آب».. ولنا الحق بالتعبير على طريقتنا!
التالي
الإبتهاج بنتائج «الإمتحانات الرسمية».. ابنة الـ٧ سنوات تُصارع الموت