٤ آب.. الحداد المبتور!

انفجار المرفأ

حطّ ثاناتوس، إله الموت الإغريقي، في الرابع من آب ٢٠٢٠، رحاله في مرفأ بيروت، و رسم بجناحيه المظلِمَين لوحة دمار و موت، حملت قماشتها رائحة أرواح المئات من الأبرياء، الذين لم يقترفوا أي ذنب سوى أنهم أرادوا تأمين لقمة عيشهم، أو صودف مرورهم أو موقع منازلهم بالقرب من هذا المكان.

وأمام هَول ما نجم عن انفجار ٤ آب من ويلات، طالت شرائح لبنان كافة، من المفترض مساءلة من اقترفت أيديهم “المنحرفة”، الجريمة الأكثر فظاعةً في تاريخ لبنان القريب و محاسبتهم، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن هذه المحاسبة ضرورية، وواجب يقع على عاتق كلّ مواطن لبناني، يطمح إلى بناء دولة مدنية قوية بمؤسساتها.

و الهدف مما نحن بصدده في النظر إلى جريمة المرفأ، عرض مقاربة تحليلية موجزة و سريعة، لحال لبنان “الثاكل”، الذي لم يستطع أن يتخطى “مصابه” الأليم ، و عجز من ثم عن تقبّله و التكيّف معه، في محاولة للكشف عن مدى معاناة وطن، ينتظر في كل لحظة خلاصه.

وبالعودة إلى مصطلح ثاناتوس، فقد استخدمه سيغموند فرويد في إشارة إلى نزوة التدمير والموت. و هو يعبّر، من زاوية التحليل النفسي، عن السلوكيات المدمرة و العدوانية، وعن ميول تدمير الذات، التي قد تنال من الحياة النفسية للكثيرمن الأفراد.

حوّلت جريمة المرفأ لبنان إلى وطن مفجوع، إن جاز التعبير، وهو يحاول جاهداً التكيّف مع خسارة شهدائه، ليتجنّب شعوراً فظيعاً بالألم و اليأس، ويتفلت من حالة مريرة تدفع به إلى الجنون.

ومن الطبيعي، أن تفرض مقاربة حال لبنان بعد جريمة ٤ آب، والتي تحاكي خسارة الفرد لقريب له أو عزيز أو حبيب، النظر إلى الحداد من منظور تحليليّ، لفهم تداعياته على نحو أكثر عمقاً.

يعدّ الحداد، بحسب فرويد، سيرورة سيكولوجية طبيعية، تتأتى نتيجة خسار لقريب أو حبيب. وهو يشير إلى الكبت الذي يعدّ أوالية دفاعية نفسية، باعتباره يلقي بالافكار و الانفعالات والذكريات، التي تتسبب بالاضطرابات خارج دائرة الوعي، أي في اللاوعي. فعندما يتعرض الفرد لفقدان شخص قريب، فإنه يلجأ، بطريقة لاواعية، إلى كبت الانفعالات الحادة المرتبطة بهذه الخسارة، لكي يستطيع تجنّب شعورٍ جامحٍ بالألم والقلق.

فيما يتعلّق بمراحل الحداد النفسي، فإن عرضها يتبدّى بدوره، ضرورة في سبيل تقديم وصف أدق لواقع لبنان المرير، من جرّاء جريمة وصِفت بأنها جريمة العصر

وهكذا يكون الحداد محاولة من قبل الفرد، لتجاوز تلك الخسارة وتقبّلها، و مظهراً للتعبير عن انفعالاته الكدرة و التعايش معها، والسعي لإعادة تصحيح مسار التوظيفات الانفعالية، وتوجيهها نحو أشخاص جدد، بعد أن كانت متعلقة بالموضوع المفقود. كذلك الأمر، يجب عدم إغفال إزدواجية المشاعر، التي تتجلى في الحداد. بتعبير أدقّ، يشعر الأفراد تجاه المفقود بالحب و الغضب في الوقت. فينجم الشعور بالغضب عن الألم الذي خلّفته الخسارة. وكأن الفرد “المحزون” يحمّل العزيز المفقود مسؤولية تركه، و دفعه إلى الشعور الكبير بالألم.

وأما فيما يتعلّق بمراحل الحداد النفسي، فإن عرضها يتبدّى بدوره، ضرورة في سبيل تقديم وصف أدق لواقع لبنان المرير، من جرّاء جريمة وصِفت بأنها جريمة العصر!.. وارتأينا، هنا، الأخذ بالمراحل التي وضعها كبلر- روس، لأنها تسهم أكثر في إلقاء الضوء على عجز لبنان، عن تخطي فاجعة ٤ آب.

تبدأ المرحلة الأولى بالانكار، إذ يعمد المفجوع إلى رفض الواقع و تصديقه. و يعدّ الانكار أوالية دفاعية نفسية، تحمي الفرد من شعور أليم، قد يحتاجه نتيجة مواجهته لواقعة الخسارة. وبعد أن يعي الفرد حصول الواقعة، متخطياً انكارها بنجاح، يدخل في مرحلة من الغضب الشديد، الناجم عن الاحباط الذي يتخبّط فيه، نتيجة شعوره بالعجز عن القيام بما يعينه على تفاديها. و تأتي من ثم المرحلة الثالثة، وهي مرحلة المساومة، التي تكمن في محاولة التفاوض لتجنب الخسارة. بتعبير آخر، يقرّ الفرد المفجوع بعدمه قدرته عن مواجهة خسارته، و يبدأ بالبحث عمّا ينقذه من عجزه، من خلال تبادل الحديث و الكلام عن خسارته.

لبنان يمثل نموذجاً واضحاً عن فرد مفجوع، لم يستطع تخطي مرحلة المساومة المسؤولة

وبعد ذلك يقع فريسة الاكتئاب (المرحلة الرابعة) الذي يعدّ نتيجة طبيعية للرضوخ إلى الأمر الواقع، أي الخسارة. و فيما يتعلق بالمرحلة الأخيرة من الحداد، فيتمثّل في قبول الخسارة، و التكيف مع المرحلة الجديدة واللاحقة من الحياة.

وانطلاقاً ما سبق، ندرك تماماً، ومن خلال ما تم عرضه حول الحداد و مراحله، أن لبنان يمثل نموذجاً واضحاً عن فرد مفجوع، لم يستطع تخطي مرحلة المساومة المسؤولة، عن تخفيف وطأة الخسارة. و هو يتخبّط في عجزه يائساً، و باحثاً عن كلّ ما يمكّنه من استيعاب خسارته تلك، و سيّما في ظلّ ما يجري من طمس فاضح، لجريمة أمعنت في انهاكه.

أتت الذكرى الثالثة لجريمة ٤ آب، لتحاصر وطناً بأكمله، و تسلب منه الحق في استعادة عافيته

أتت الذكرى الثالثة لجريمة ٤ آب، لتحاصر وطناً بأكمله، و تسلب منه الحق في استعادة عافيته، بدل من أن تحمل معها، محاسبة المخططين و المنفذّين و معاقبتهم.

أخيراً، في ظلّ ما مرّ به لبنان، ومازال يمر به من مؤامرات، هدفت إلى ضرب عروبته و عزله و إفقاره، و تحويله إلى ميدان لحلّ ملفات اقليمية و جعله ورقة ضغط في أيدي أنظمة دين- فاشية، بالإضافة إلى الاغتيالات، التي طالت شخصيات سياسية و اعلامية وطنية نادت بسيادته، فإن هذا البلد، سعى و مازال يسعى دائماً للملمة أشلائه، إن جاز التعبير، من أجل تحرير سيادته من قيود استلابها.

و هل سيتمكّن لبنان من انهاء حداده و استعادة عافيته؟

السابق
ظهورٌ مسلَّح لـ«سرايا المقاومة».. في صيدا!؟
التالي
الدولار «الأسود».. كم سجّل صباحاً؟