تاريخ نهضة جبل عامل (19): ذكرى شهادة كامل مروة.. انتصار «الحياة» على القتلة

كامل مروة
في مثل هذا اليوم 17 أيار 1966, اغتيل الصحافي اللبناني الكبير كامل مروة مؤسس جريدة "الحياة".. وكامل مروة إسم ضخم لشخصية إعلامية ثقافية فذّة منبتها جبل عامل جنوب لبنان، غير ان مسرحها كان العالم العربي كله، فقد كانت عواصم الرياض والكويت وبغداد والرباط والقاهرة في خمسينات وستينات القرن الفائت، تترقب صباح كلّ يوم وصول طائرة الخطوط الجوية اللبنانية قادمة من بيروت حاملة آخر خبر موثوق، وآخر رأي خطّه كامل مروّة تحت عنوان "قل كلمتك وامشِ" في صدر صحيفته التي أسّسها وحوّلها بعبقريته الى نجمة الصحافة العربية بلا منازع.

ساهم ازدهار الصحافة اللبنانية أثناء حكم الانتداب الفرنسي في الربع الأول من القرن الفائت، في نهضة لبنان الثقافية، شأنه في ذلك شأن الدول العربية التي احتلتها الجيوش الغربية بعد انتصارها في الحرب العالمية الاولى على جيش السلطنة العثمانية وطرده من بلادنا.

كانت الفترة الممتدة بين الأعوام 1930 والعام 1943 ذهبية بالنسبة للصحافة المكتوبة في لبنان، سمحت سلطة الانتداب الفرنسي خلالها بتأسيس صحف ومجلات انخرطت بقوة في العمل السياسي، ومن الصحف الرئيسة التي صدرت في مرحلة الانتداب: صوت الأحرار، والنداء، وبيروت، ولبنان، واللواء، والبلاد، والدبور، والديار، وآسيا، والعمل، والنهار، والشرق. فضلا عن صحيفة «الحياة» لكامل مروة في العام 1946.

إقرأ أيضاً: تاريخ نهضة جبل عامل (18): الشيخ موسى عز الدين.. عالم نهض بالتعليم الديني والتربوي

ولما كانت المبارزة مثيرة وشيقة بين القاهرة وبيروت في المنافسة على عرش الصحافة، فان صحيفة الاهرام الرسمية التي تصدرت الصحافة المصرية ايام الحكم الناصري، لم تستطع حتى مع رئيس تحريرها التاريخي محمد حسنين هيكل ان تصمد في وجه صحيفة الحياة اللبنانية العربية المستقلة التي كان يرأسها ويديرها كامل مروة المشهور بمصادره الموثوقه وكتاباته غير الممالئة للحكام، وكان يخط صحافيوها آراءهم وتحليلاتهم بموضوعية وحرية مطلقة، فحازت بسبب تلك الصفات على اعجاب الجمهور العربي وأيدها المثقفون، لتصبح الحياة الصحيفة العربية الأولى في ذلك الزمن منتصف القرن الفائت.

رحلة كفاح ونجاح

كامل مروة قصته هي قصة “حياة” واستشهاد، من مواليد عام 1917 في الزرارية بجنوب لبنان، درس في مدرسة الفنون الإنجليلية في صيدا حيث أصدر عام 1930 مجلة “ثمرة الفنون” بالتعاون مع رشدي المعلوف، وكانت مخطوطة. وشجعته هذه التجربة على كتابة مقالات لمجلة «العرفان» لصاحبها الشيخ أحمد عارف الزين، والتي كانت أهم دورية تصدر في صيدا وجبل عامل في ذلك الزمن. وقد أسهمت هذه التجارب المتعددة في بناء ثقته بنفسه وفي تهيئته لدخول ميدان الصحافة لاحقاً.

بدأ العمل الصحافي عام 1934 في جريدة “النداء”، وانتقل عام 1937 إلى صحيفة “النهار”، وأصدر عام 1939 مجلة “الجريدة الجديدة” المصورة بالتعاون مع فؤاد حبيش، تراكمت خبرة كامل مروة الصحافية عاماً بعد عام، وصار بعد فترة يراسل عدداً من الصحف ووكالات الأنباء الأجنبية، ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939 أصدر مجلة «الجريدة الجديدة المصوّرة»، لتغطية أخبار المعارك الدائرة في أوروبا، ولاقت هذه الأسبوعية إقبالاً تاريخياً، إذ لأول مرة يتجاوز مبيع مطبوعة في لبنان 60 ألف نسخة، أي ستة أضعاف أرقام التوزيع المعتادة.

كانت «الحياة» جريدة جديدة في كل شيء. كانت تُطبع وتُوزع باكراً عند الفجر في زمن كانت غالبية صحف بيروت تصدر عند الظهيرة

وضع الشاب كامل مروة حياته في مواجهة الاخطار والأهوال عندما سافر الى اوروبا لتغطية اخبار المعارك، وصل إلى برلين ربيع 1942، مع بداية تعثر القوات الألمانية على مختلف الجبهات، وذهب للقاء مفتي القدس المؤيد لقوات المحور الحاج أمين الحسيني، فوجده قلقاً. كان الحسيني قد عقد اجتماعه الشهير مع أدولف هتلر الذي رفض عقبه هذا الأخير إصدار أي بيان علني يؤيد استقلال ووحدة العرب ضدّ وعد بلفور البريطاني المؤيد لقيام دولة اسرائيل على ارض فلسطين”.

قرّب المفتي اليه الصحافي الشاب الذي كان يتقن الألمانية والفرنسية والإنكليزية، وطلب منه مرافقته في بعض لقاءاته وجولاته الأوروبية. ثم أوفده إلى صوفيا عاصمة بلغاريا ليكون حلقة الاتصال مع الناشطين العرب الذين مكثوا في تركيا المجاورة. فاستقر هناك معظم سنيّ الحرب.

تأسيس الحياة وأخواتها

بعد الحرب الكبرى، بدأ مروة بالعمل على تحقيق حلمه بإصدار صحيفة خاصة به، وتمكن بعد جهد من الحصول على قرض وأسس جريدة “الحياة” مطلع عام 1946 بإمكانات متواضعة جداً، لكنه كان يخطط منذ البداية لأن يجذب دعماً أكبر من المغتربين اللبنانيين المقيمين في أفريقيا الغربية. لذلك قام بزيارة خاطفة الى السنغال قبيل انطلاقة جريدته للتواصل مع بعض معارفه هناك. ووجد لديهم استعداداً كبيراً لمساندة مشروعه. بعدها ألف كتابيه الشهيرين “نحن في أفريقيا” وستة في طيارة”.

صدر العدد الأول من «الحياة»، فتلقفه القراء بشغف كبير، ثم اصدر صحيفة “ذي دايلي ستار” باللغة الإنكليزية عام 1952 “بيروت ماتان” أصدرها في العام 1959 باللغة الفرنسية.

الصحافي كامل مروة

كانت «الحياة» جريدة جديدة في كل شيء. كانت تُطبع وتُوزع باكراً عند الفجر في زمن كانت غالبية صحف بيروت تصدر عند الظهيرة. وكانت تغطيتها الإخبارية تركّز على الشؤون العربية والدولية، بينما منافساتها غارقة في السياسة اللبنانية المحليّه. كانت الأخبار والمقالات فيها موجزة، وتبويبها حديثاً، وتنتشر على صفحاتها البيانات والخرائط.

يعود لكامل مروة الفضل الأول في تحرير الصحافة اللبنانية في الخمسينيات والستينيات من نطاقها المحلي الضيق، وإطلاقها نحو الحداثة والانتشار في العالم العربي

وحسب خبراء، فانه يعود لكامل مروة الفضل الأول في تحرير الصحافة اللبنانية في الخمسينيات والستينيات من نطاقها المحلي الضيق، وإطلاقها نحو الحداثة والانتشار في العالم العربي. فهو أول من كتب المقال الافتتاحي القصير في بيروت وجعل عنوان مقالاته “قل كلمتك وامشٍ” واعتمد الطرق الحديثة في صياغة الخبر وكتابة الرأي، متأثراً بأسلوب التجرد السائد في الجرائد والمجلات الدولية.

أدخل مروة أحدث التكنولوجيا الموجودة يومذاك على صناعة الصحف وطباعتها. سجل باسمه اختراع “الحرف العربي المختصر”، ويعود إلى عام 1959، ولا يزال هذا الحرف المعروف بإسم Simplified Arabicفي الاستعمال إلى اليوم، ولا سيما على الوسائل الرقمية.

ومع نكبة فلسطين عام 1948 توقّفت الصحف الفلسطينية في حيفا ويافا عن الصدور، فلجأ عرب المشرق الى «الحياة» كمصدر أول للأخبار، فذاع صيتها، وبات القراء ينتظرون وصولها كل يوم في القدس ودمشق وعمّان وبغداد. وبذلك تُوِّجت «الحياة» الجريدة الأولى في المشرق.

الاغتيال المكشوف

اغتيل يوم الاثنين 16 أيار 1966، في مكتبه في دار الحياة في بيروت برصاصتين أطلقتا من مسدس كاتم للصوت فأصابتاه في القلب وكان عمره 51 سنة.

كان مروة أكثر من صحافي ناجح صاحب صحيفة ناجحة، فقد قالت عنه مجلة “الإيكونومست” البريطانية في عددها الصادر في تموز 1966 بأن “كامل مروه لم يكن رجل صحافة فحسب، بل شخصية سياسية، يستشيرها الملوك ورؤساء الدول”.

وفي مقاله اليوم 17-5-2023 بموقع “العربية” في ذكرى اغتياله ال57، تحت عنوان: “كامل مروة ضحية الحرب الباردة”، كتب الصحافي المخضرم خيرالله خيرالله في نهاية مقاله شارحا بعمق مغزى الاغتيال، مؤيدا ضمنا ما ذهبت اليه الصحيفة البريطانية حينها، ومؤكدا ان سببه خلاف مصر مع السعودية حول تدخل عبد الناصر في اليمن في ستينات القرن الفائت ومعلومات عن وساطة الصحافي كامل مروة فيها، يقول خيرالله :

“وقف كامل مروّه إلى جانب الملك فيصل في هذا الصراع، وتبين لاحقا أنّه كان من مهندسي تقاربه مع إيران ومن مشجّعيه على بناء جبهته مع الدول الإسلامية. وقفت شخصيات عربية أخرى إلى جانب الرئيس المصري ولعبت أدوارها في مساندته. مع تصلّب المواقف المتقابلة وتفاقم التباعد بين الطرفين، بات صعبا على الجميع احتواء خصوماتهم السياسية كما كان يجري في السنين السابقة أو الحد من انعكاساتها العنيفة على الشارع العربي.

اقرأ أيضاً: تاريخ النهضة في جبل عامل (17): محمد شرارة.. شيخ عاملي اعتنق الماركسية ولم يبارح بغداد!

في هذا الجو المشحون، توقفت سيارة صغيرة أمام مبنى “الحياة” في وسط بيروت ليل الاثنين في 16 أيار – مايو 1966 ونزل منها رجل يحمل رسالة إلى رئيس التحرير. توجّه مباشرة إلى ردهة الاستقبال في الطابق الأوّل حيث سهّل له موظّف الاستقبال الدخول إلى غرفة صاحب “الحياة”.

قالت عنه مجلة “الإيكونومست” البريطانية في عددها الصادر في تموز 1966 بأنه “لم يكن رجل صحافة فحسب، بل شخصية سياسية، يستشيرها الملوك ورؤساء الدول

وقف الرجل أمام كامل مروّه الذي كان جالسا وراء مكتبه يتلقى مكالمة هاتفية وسلّمه الرسالة، ولمّا بدأ الأخير قراءتها عالجه بطلقتين من مسدّس مزود بكاتم للصوت أصابتاه في الصدر.

لم يكن مقتل كامل مروّه في نهاية المطاف سوى فصل من فصول المأساة اللبنانية المستمرّة إلى يومنا. لا يزال ممنوعا أن يكون مسلم لبناني لبنانيا بالفعل وعربيا صادقا يمتلك، بالفعل أيضا، حدّا أدنى من الوعي والمعرفة بالعالم وموازين القوى فيه”!

وبالعودة الى حدث الجريمه، فإنه سرعان ما كشفت التحقيقات ان من نفذ الاغتيال يدعى عدنان سلطاني الذي حُكم عليه في لبنان بالسجن المؤبد، وهو اعترف بأنه قام بالعملية تنفيذاً لأوامر الاستخبارات المصرية في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وقد فرّ من سجن الرمل عام 1976، وتم تهريبه إلى القاهرة، وعندما توفي عام 2001 نعاه حزب الاتحاد الناصري في لبنان.

السابق
بعد اعتداء شيخ على سيدتين في صيدا بسبب الـ«مايوه».. مجموعات مدنية ترفع الصوت: أين السلطات والقضاء؟
التالي
فوز ابن طيردبا رضوان فقيه في انتخابات احد المجالس البلدية في ايطاليا