تاريخ نهضة جبل عامل (18): الشيخ موسى عز الدين.. عالم نهض بالتعليم الديني والتربوي

قبل المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى الذي أسسه الامام موسى الصدر عام 1969، كانت جمعية علماء الدين العاملية التي اسسها الشيخ موسى عزالدين عام 1951، التي ضمت نخبة من العلماء المجددين العازمين على النهوض بالجنوب اللبناني وأهله في جميع النواحي، خصوصا التربوية منها والدينية والثقافية.

بعد جيل علماء الشيعة الكبار من المراجع والمجتهدين، أمثال السيد محسن الامين والسيد عبد الحسين شرف الدين والشيخ حسين مغنية والشيخ عبد الحسين صادق، الذين واكبوا سياسيا واجتماعيا وثقافيا رواد النهضة العاملية، في مرحلة تأسيس لبنان الكبير عام 1920، وكان لهم أثر بارز في دخول جبل عامل وأهله الى رحاب الوطن الجديد، الذي اعترف بأبنائه من الطائفة الشيعية كمكوّن اساسي فيه، فإن جيلا جديدا من علماء الدين المجتهدين النهضويين القادمين من النجف منتصف القرن الفائت، تسلّم الرّاية من أولائك الكبار، الذين رحلوا منتصف القرن الفائت وفارقوا الحياة، مخلفين سيرا ناصعة واعمالا حافلة بالانجازات العظيمة.

هؤلاء العلماء الجدد، سرعان ما باشروا نشاطهم في الكتابة والتأليف بشتى المجالات، التي عنت بالتجديد الديني والأدبي، فعنوا بالتاريخ وقاموا بتحديث مباني الفقه الجعفري كي يلائم العصر، استكمالا للرسالة التربوية التي بدأها الامام شرف الدين، الذي كان قد أسس الكلية الجعفرية في صور، أسوة برواد النهضة في مدينة النبطية الذين كانوا أسسوا عددا من المدارس الأهلية.

ويُذكر من هؤلاء العلماء، الذين عادوا واستقروا في لبنان منتصف القرن الفائت، وكان لهم مساهمات مؤثرة في استكمال النهضة العلمية في جبل عامل: الشيخ موسى عزالدين، الشيخ محمد جواد مغنية، والشيخ عبدالله نعمة، والشيخ محمد تقي الفقيه والسيد هاشم معروف الحسني.

ولد الشيخ موسى عزالدين في النجف الأشرف في العراق عام 1892، والده العالم الورع الشيخ كاظم عز الدين، عاد مع أبويه من النجف إلى دير قانون وعمره ثمان سنوات، أخذ يتلقى علم القواعد العربية من صرف ونحو على والده الشيخ كاظم مرة “وعمه الشيخ علي تارة” وظل كذلك حتى عام 1906م، عندما انتقل إلى مدرسة الشيخ إبراهيم عز الدين في قرية حناويه (جنوبي صور وعلى مسافة 12 كيلومتراً منها)، المدرسة التي تمكن فيها من علوم القواعد العربية، والمنطق والبيان والبديع ومبادئ الفقه الإسلامي الجعفري وأصول الفقه.

وفي 1918 م توفي ولده، وعاد الشيخ فهاجر من دير قانون إلى النجف، منهل العلوم الدينية ومعين الشريعة الإسلامية، ليعود ويستقر في لبنان منتصف القرن الفائت في منطقة صور.

تأسيس جمعية علماء الدين العاملية

بادر الشيخ عزالدين، رحمه الله، الى جمع أترابه من كبار رجال الدين المجتهدين في جبل عامل، وصارحهم في رغبته بإنشاء جمعية في منطقة صور، هدفها انشاء كلية دينية ومدارس ومستوصفات ومكتبات، من أجل النهوض العلمي والثقافي والصحي في المنطقة أسوة بباقي المناطق اللبنانية، وان هذا الأمر يتطلب مؤازرة من جميع الاعيان وكذلك تمويل خاص، فتأسست “جمعية علماء الدين العاملية” بتاريخ 2 حزيران 1951 م، بموجب علم وخبر من وزارة الداخلية رقم 155 في 12 كانون الأول 1952، وكان عدد أعضائها تسعة: الشيخ إبراهيم سليمان، السيد عباس أبو الحسن، الشيخ عبد الله نعمة، الشيخ عبد المنعم شرارة، الشيخ علي الفقيه، السيد علي مهدي إبراهيم، السيد محمد باقر إبراهيم، الشيخ محمد تقي صادق، السيد هاشم معروف.وكان من الروحانيون (اللجنة الإدارية): السيد موسى الصدر، السيد محمد باقر إبراهيم، الشيخ خليل ياسين.

وفي 20 آذار 1966 اجتمع الروحانيون لانتخاب “الهيئة الإدارة الجديدة” التي تألفت من: الشيخ موسى عز الدين (العميد المسؤول)، السيد علي مهدي إبراهيم (نائب العميد والمسؤول أمام السلطات)، السيد أحمد شوقي الأمين (أمين عام).

اما الروحانيون الذين عادوا وانتسبوا للجمعية فهم: السيد علي مهدي إبراهيم، السيد عبد الكريم نور الدين، الشيخ محمد زغيب، الشيخ عبد الحميد الحر، السيد علي فضل الله، الشيخ حسين معتوق، الشيخ عبد الله مديحلي، السيد محمد علي الأمين، السيد محمد حسن الأمين.

الحشد العلمائي الذي واكب تأسيس جمعية علماء الدين وكان من ضمنهم الامام موسى الصدر انما يدل على عمق الثقة والتأييد الكبير الذي كان يحظى به المؤسس الشيخ موسى عزالدين

هذا الحشد العلمائي الذي واكب تأسيس جمعية علماء الدين وكان من ضمنهم الامام موسى الصدر، القادم حديثا من ايران، والذي أسس المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى لاحقا، انما يدل على عمق الثقة والتأييد الكبير الذي كان يحظى به المؤسس الشيخ موسى عزالدين، من قبل غالبية رجال الدين العامليين في ذلك الزمان، الذين وجدوا أنفسهم في صلب عمل ونشاط ديني اجتماعي يتعطش له الجنوب واهله الذين كانوا يفتقرون لمدارس حديثة ومكتبات ومراكز صحية منتصف القرن الفائت، خصوصا ان وزارة التربية في الدولة اللبنانية الناشئة حديثا، أسست عددا قليلا من المدارس الابتدائية في القرى، وكان يعيق تكاثرها ندرة الاساتذة والكوادر العلمية في الجنوب اللبناني في ذلك الزمن.

المدرسة الدينية

كان هدف الشيخ موسى عزالدين من انشاء الكلية دينية، تضم طلاب علوم الفقه والآداب الإسلامية، من أجل ان يقطع الطالب في المؤسسة المراحل الأساسية الهامة في وقت قصير جداً، ليذهب بعد ذلك إلى النجف الأشرف إتماما، وقد قامت الجمعية بدعوة الطلاب الدينيين بمجرد صلاحية البناء لإيوائهم في عام 1961 م في مدينة صور، ثم أخذت في تجهيزهم وتدريسهم وتهيئتهم لمستقبل روحي أمثل، وعددهم لا يتجاوز يومئذ الـ15 طالباً. تولى تدريسهم علماء أجلاء وأخصائيون.

إقرأ أيضاً: تاريخ النهضة في جبل عامل (17): محمد شرارة.. شيخ عاملي اعتنق الماركسية ولم يبارح بغداد!

وقد قال المفكر الاسلامي الراحل السيد محمد حسن الامين في ذكرى تكريم الشيخ عزالدين عقب وفاته حول انشاء المدرسة : “يوم كان يصنع فيها رجال هذا الجبل، من هنا أراد أن يقيم مدرسة حقيقية، لبناء قادة ورجال. لأنه كان يدرك أن مصنع الأجيال هو المدرسة. وهو المدرسة الدينية التي أقامها.فقد جاء من معقل العلم في النجف محملاً بالثراء العلمي وبالورع والتقى مما يؤهلّه ويؤهل أمثاله من الرجال أن يكونوا في الصفوف الأولى في مجتمعهم. وأن تكون لهم الامتيازات الكبرى في هذا المجتمع خاصة ونحن نعلم أن مجتمعنا في تلك الفترة كان فقيراً بكل الإمكانيات والكفاءات. كان فقيراً برجال العلم. كان رجل الدين وحده هو المنارة التي تهدي، وكان الشيخ موسى مجتهداً كبيراً يفد إلى هنا ولكنه يفد إلى قريته. ويعود إلى بيته القديم الذي انطلق منه ليعود عاملاً حقيقياً لا يزهو به الموقع. ولا تنطلق به الإمكانيات التي يحملها والتي أهلته لأن يكون مجتهداً لا تنطلق به عن حدود واقعه. لا تنطلق به من آفاق الغرور بل يقف مع المحراث ويحصل على رزقه بيده. فلم يقعده العمر أن ينهض وهو في الستين أو فوق ذلك بقليل أن ينهض فيرتاد عامله قرية، قرية، وبيتاً بيتاً وهو يحض على بناء مشروعه الديني الكبير في صور”.

مستوصف ومدارس ومكتبات حديثة

ومن انجازات الجمعية التي تخطت المجال الديني لتساهم في الانتماء الشامل، تأسيسها “المستوصف الخيري المجاني” في منطقة صور-العباسية، الذي بدأ عمله في عام 1963م بتعيين اطباء كبار يشرفون يوم كان الاطباء في الجنوب يعدون على الاصابع، وهم: الدكتور أحمد عزالدين والدكتور إبراهيم صالحة ، ثم الدكتور فخري علامة فالدكتور محمد يموت .

1979م تبرع ببيته في العباسية – المؤلف من ثلاث عشرة غرفة – ليصبح مدرسة أهلية هي “المدرسة العاملية الجنوبية” تضم أكثر من ستمائة طالب وطالبة

وعلى الصعيد التربوي أسست الجمعية مدرسة خاصة للبنات، بدأت عملها في عام 1967م في صور، وبالتعاون بين الجمعية ومصلحة الانعاش الاجتماعي نشطت إدارة المدرسة الابتدائية للذكور والإناث لإنشاء تكميلية وثانوية، استمر العمل فيهما في مبنى ثالث على مسافة مائتي متر من المؤسسة مدة سنتين، وبلغت ميزانية العام 1965 – 1966 ثلاثين ألف ليرة ل. 75% من مصلحة الانعاش الاجتماعي و25% من الجمعية.

وبلغ عدد الرواد في هذا العام للمطالعة فقط خمسة آلاف، عدا ما يقارب الألف من زوار رسميين وشخصيات مرموقة.

في 14 تشرين الأول 1979م تبرع ببيته في العباسية – المؤلف من ثلاث عشرة غرفة – ليصبح مدرسة أهلية هي “المدرسة العاملية الجنوبية”، تضم أكثر من ستمائة طالب وطالبة.

وعندما وافى الشيخ موسى عزالدين الأجل عام 1980 عن تسعين عاما، أدى بهم الأمانة على أحسن وجه، مساهما في نهضة جبل عامل العلمية والثقافية، رثاه العلامة الراحل السيد محمد حسن الامين بقصيدة جاء فيها:

تسعون واحتشدت في يومك القمم في أيها يستريح الخاطر البرم

تسعون أسكرتها بالمجد وانطفأت وهكذا أنت تذكيها فتضطرم

والدرب من وجع تجري إلى وجع تدوي على صمتك الأوجاع تُخْتَرمُ

وأنت كالرمح لا نفس ولا أود تهتز فالمشريان النبل والشمم

يداك للحق تجني الخير منه يد وفي يد يتغاوى يزهر القلم

وظل يرعف نوراً رغم أن يداً شدته شد عليها الضعف والهرم

وهكذا تنطوي التسعون مثقلة وأنت في القمة الشماء معتصم.

السابق
بالفيديو.. عشائر العرب تحت «عباءة» بري لدرء فتنة «حزب الله»!
التالي
وزير العدل «يبتز» القضاة وغادة عون خارج «القوس»..وبري على خط خلدة-حارة حريك!