«زواج المبدعين» لشوقي بزيع: هامش الحبّ غير المحمود

نبدأ بعنوان الكتاب وموضوعه اللَّذَين ليسا دارجَين ولا أليفَين. يكاد العنوان “زواج المبدعين”، أن يبدو مضاداً لنفسه منقلباً عليها، حين نقرأ ما تحته “ثراء المتخيَّل، وفقر الواقع”، هكذا يكاد ما تحت العنوان، يفسّره ويعطفُ عليه، بما يشبه النقد أو التكذيب.

الكتاب يحصرُ نفسه في “الزواج”، الذي لا يحمل أغنية، ولا يوجد من يُغنّيه. سواء قالوا إنّه مُنتهى الحبّ، أو إنّه خُلاصته، فليس الزواج سوى ما عناه شوقي بزيع، في عنوانه الثاني، بفقر الواقع. إذا كان الإبداع ميزة، فالزواج ليس كذلك. الحبّ وحده يجاور الإبداع ويناظره، أمّا الزواج فشيء آخر. إنّه يكاد أن يكون مضاداً له، أو إنه هامشٌ غير محمودٍ له، إذا صحَّ فلن يُثريه بقدر ما سيكون عالاً عليه، سيُفِقره دون شك.
 
هذا ما يدعونا إلى أن نزن اختيار الموضوع بشيءٍ من الثناء. لقد اختار الكاتب موضوعاً غير سائغ، وعلينا أن نشكر له أنّه ألقى بنفسه في هذا الحرَج، واختار أن يتنكّب هذه الحيرة. لا يعدنا الشاعر شوقي بزيع، وهو الذي نظَم في الحبِّ مطولاتٍ وأناشيد، إلّا بأن يقاسمنا حرجه وحيرته بدءاً من عنوانه.

اقرأ أيضاً: في يومها العالمي.. القراءة «العدوّة اللدودة» لأنظمة استبدادية تمعن بإنتهاك الحريات

ستكون مقدِّمة الكتابِ في مُناخ العنوان. يتصفّح بزيع مباحث كثيرين في الزواج وتضاده مع الإبداع. إنّها آراء شتّى، لكنّنا لا نخطئ إذا قلنا إنّها في تواليها واتصالها تكاد أن تكون لبزيع نفسه، وإن الإتيان بها لم يكن، لولا أنّها تدخّل في سريرته، وتبسّط الموضوع كما يراه أو يحسّه.

الزواج ليس مضاداً للحبّ فحسب، ولكنه تبليدٌ للحياة كلّها في جملتها، وحملٌ لها على الرتابة. هكذا يجد بزيع أنَّ الحبَّ شِعرُ العالم، والزواج نثره. قولٌ لا يقلّل من أهمية النثر، لكنّه يضع الزواج خارج الشعر أو خارج الغناء والاحتفال، خارج الحياة العميقة والفريدة. ليس الزواج مضاداً للحبّ وحده إذاً، إنّه، على نحوٍ ما، قد يكون مضاداً للحياة كتجربة، وكجوهر، وكمعنى. الزواج لذلك، بما يستتبعه من المساكنة ولزوم المنازل، والأبوة أو الأمومة، إذ عطفنا هاتين على سابقتهما. الزواج كنمط حياة، وكأسلوب عيش، مضادٌ، ليس للإبداع وحده، ولكن للحياة نفسها. الزواج هو هكذا مقتلٌ للحبِّ، لدرجة أنّ الشعراء لا يصحون على زوجاتهم، ولا ينتبهون لخصالهنّ إلا، يا للعجب، حين يختطفهنّ الموت. 

هذا ما يسوق بزيع إلى ذكر كتاب محمد مظلوم عن “رثاء الزوجات”، الذي يذكر إلى جانبه أسماء شعراء، حداهُم الموت إلى استرجاع زوجاتهم، اللواتي لم يذكروهنّ في حياتهنّ. لا يسعنا والأمر كذلك، إلّا أن ننكر الزواج ونرفضه. أمر يجد المؤلّف نفسه قادراً على الوصول إليه والبتّ به، رغم ما ساقه من عناصر قد تُؤدّي إلى غير ذلك، وما يحول دونه. ذلك أنّ الزواج، وإنْ كان على هذا النحو، ليس نادراً في زمرة المبدعين، منذ سقراط إلى أيامنا هذه. 

وجدَ المؤلّف عشرات وربّما مئاتٍ من المبدعين الذين تزوّجوا، وأحياناً غير مرة، رغم ما عانوه واختبروه في الزواج ومنه. إلّا أنَّ المثلَ الأول الذي يطرأ للكاتب هو في حياته نفسها. لقد تزوّج بزيع ولا يزال متزوّجاً، هو الشاعر من شاعرة “وإذا أقدمتُ بُعيد الخمسين على الزواج من شاعرة متميّزة، بدت لي تلك الخطوة قفزاً في المجهول”، وإذا كان هذا الزواج، مثله مثل أيّ زواج آخر، عانى من “النقص في منسوب الحرية والهواء، والاختلاء بالذات، والفضاء المتخيَّل للرغبات”، إلّا أن ذلك لقي تعويضاً في “فرح الحصول على زوجة متفهّمة وهادئة الطباع، وعلى ابنتين رائعتين، وعلى فرصة ثمينة من تخليص الفردية من مساحاتها الفائضة”. 

يمكننا، ونحن نقرأ هذا التعقيب، أن نشعر بأن كلمة فرح في هذا المقطع، مضادّة لكل السياق القاموسي الذي حكم كتابة المقدِّمة. مع ذلك فإن فيه جُرأة أُخرى، إذا تجاسر المؤلّف على موضوع غير دارج كالزواج، فإنه يتجاسر أيضاً على أن يُقحم تجربته الخاصّة، التي تتعلّق باسمه وأدبه، في هذا الموضوع، وأن يعتبر نفسه مسؤولاً فيه، مثله مثل المُبدعين كافة. لكنّ تصفّحاً آخر للكتاب، اسماً بعد اسم، قد يُفضي إلى اختيار الأسماء العربية وتفحُّص ما بينها، منذ ديك الجن الحمصي حتى يوسف الخال ومحمد الماغوط. سلسلة من المبدعين، هم: “آمال جنبلاط وسعيد عقل”، “بلقيس الراوي ونزار قباني”، “تمام الأكحل وإسماعيل شموط”، “خالدة سعيد وأدونيس”، “رنا قباني ومحمود درويش”، “سنية صالح ومحمد الماغوط”، “عبلة الرويني وأمل دنقل”، “لورنا هيلز وجواد سليم”، “مها بيرقدار ويوسف الخال”، “مي مظفر ورافع الناصري”، “ناديا حمادة وغسان تويني”، “ورد وديك الجن الحمصي”.

إنّها قائمةٌ من أكثر من اثني عشر ثنائياً، لعلَّنا نلاحظ تقديم اسم المرأة في الثنائي لدى بزيع. إذا عُدنا إلى السلسلة سنشعر هنا مجدداً بـ”فقر الواقع”، عدا عدد قليل من الثنائيات يُمكننا حصره في “ديك الجنّ وورد”، “محمود درويش ورنا قباني”، “محمد الماغوط وسنية صالح”، “يوسف الخال ومها بيرقدار”. لا نكاد نجد تفاصيل لواقع التجربة نفسها، إنّها روايات قلّما تُفصِح عن نفسها، وقلّما تعرضُ تجربتها، إلّا حين تفضي هذه إلى فشلٍ صاعق، انكشف الستار عنه وبات معروفاً. لقد انتهت تجربة ديك الجن إلى مقتله، بينما انتهت تجارب أُخرى إلى خصومات غير واضحة، ولوم لا نتأكّد من موضوعه ولا فحواه. قد يكون مردُّ هذا إلى ما يكتنف البيت الشرقي العربي، من حظر وصيانة وانغلاق، ما يكتنف الحياة الشخصية كلّها، من سريّة وتحفّظ. لذا تبدو، حتى الخصومات المعلنة، أشبه بصيحاتٍ مبتورة، لا نتأكّد تماماً من حقيقتها ومحلّها.

السابق
13 نيسان: في نقد النقد (2)الشيعية السياسية
التالي
بالصور: مكتبة الأميرة ديالا أرسلان تحتضن مجموعة من الاطفال.. مع حكواتي وقصص ملهمة