الضربات الإسرائيلية للمواقع الإيرانية في سورية: تثبيت معادلة الردع في بيئة استراتيجية متغيرة

غارات اسرائيل على سوريا

تطرح كثافة الضربات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية في سورية، في الآونة الأخيرة، العديد من الأسئلة عما يدور في الجغرافية السورية، وفي المكاتب العسكرية والأمنية في تل أبيب وطهران، بالتزامن مع ظهور ديناميات جديدة في المنطقة من شأنها، حسب تقديرات بعض العواصم الإقليمية، التأثير في البيئة الاستراتيجية للمنطقة، وتغيير شكل التفاعلات الحاصلة بين الفاعلين المختلفين.

هندسة الواقع السوري

يُسارِع كلٌّ من إيران وإسرائيل إلى تشكيل البيئة الإستراتيجية في سورية، استباقاً لمرحلة تؤشر مقدماتها إلى احتمال تغيُّر أوضاع الفاعلين وقدرتهم التأثيرية على مسارات بدأت بالتبلور، سواء على مستوى سورية أو على المستويين الإقليمي والدولي. ويُدرِك كلٌّ من طهران وتل أبيب أن قدراتهما في تلك المرحلة ستكون محدودة بدرجة كبيرة بالديناميكيات الإقليمية الآخذة في التسارع؛ صحيح أن القدرات العملانية، خاصة بالنسبة لإسرائيل، وليست الاعتبارات السياسية هي مَنْ شكلت الأساس لاستراتيجياتها، لكن تغيُّر المناخ الإقليمي من شأنه أن يُشكِّل عائقاً في وجه إسرائيل، وبذات القدر بالنسبة لإيران.

اقرأ أيضاً: هل تستطيع إيران أن تكون قوة بنّاءة في المنطقة؟ قَشْرُ الجِلْد الإيديولوجي والنموذج الصيني

يُمثِّل السياق الذي تدور فيه التطورات خلفيةً للسلوكين الإسرائيلي والإيراني في سورية، حيث تذهب حسابات إيران إلى أن الزلزال الذي ضرب سورية مؤخراً، شكَّل فرصة ثمينة لتموضع استراتيجي إيراني، طالما حدَّت إسرائيل منه، وخاصة لجهة تجهيز بنية عسكرية بأسلحة قادرة على التأثير في المعادلات القائمة في المنطقة، لاسيما منظومات الدفاع الجوي من نوع “خرداد” ومكونات الصواريخ الدقيقة، الأمر الذي يُمكِّن طهران من تغيير قواعد الاشتباك التي تعمل لغير صالحها في ظل الأوضاع الراهنة.

من جهتها، تسعى إسرائيل، التي تبدو عيونها مفتوحة على ما يجري في الجوار السوري، لمنع أي تموضع جديد في محيطها المباشر ستكون له تداعيات على أمنها، وسبق أن حذَّرت جهات الرصد والتقييم من هذا التطور، بل أن الأجهزة الأمنية ذهبت أبعد من ذلك في قراءتها للتفكير الأمني الإيراني، بناء على الوقائع الحاصلة في سورية، عبر ربطها بالمتغيرات الإسرائيلية والإقليمية والدولية، إذ أشارت تقديرات الجيش الإسرائيلي إلى أن ايران وجدت نفسها أمام فرصة ذهبية لخلق واقع جديد نتيجة عاملين: تراجُع الدور الأمريكي في الشرق الأوسط وتركيز واشنطن على الحرب الأوكرانية والتوتر في بحر الصين؛ واستمرار الأزمة الإسرائيلية الداخلية التي تُهدِّد بتصدُّع الائتلاف اليميني الحاكم.

في حسابات الطرفين أيضاً، يدخل عامل عودة سورية إلى الحضن العربي، وما سيستتبعه ذلك من انعكاسات محتملة على أدوارهما، وبالتالي، فإن التحركات الإيرانية والتفاعل الإسرائيلي معها، تستهدف بدرجة كبيرة هندسة الواقع السوري، كلّ طرف بما يتناسب ومصالحه، وتحويل ذلك إلى معطى ثابت يتوجب مراعاته، مثلما يستدعي تصريفه سياسياً في أي ترتيبات خاصة بسورية.

بيد أن السياق الذي تجري على هامشه الأحداث الأخيرة، ينطوي على حمولات ثقيلة ومسارات مركّبة في الحسابات الإسرائيلية؛ فالاختراق الدبلوماسي الذي حققته الصين على خط العلاقات بين إيران والسعودية، والذي يحظى بالترحيب من روسيا، سيُغيِّر اتجاهات الأحداث في المنطقة، وسيمنح طهران قيماً مضافة، خاصة أن واشنطن وتل أبيب لم تكونا جزءاً من هذه العملية، كما يقضي هذا التطور على إمكانية تحوُّل الخليج العربي إلى ساحة رديفة في حال المواجهة مع إيران. 

في ذات السياق يبرز الموقف الروسي، الذي لم يتبدل حتى اللحظة، رغم تطوّر العلاقات العسكرية بين موسكو وطهران إلى حد بعيد، نتيجة تزويد روسيا بالطائرات المسيّرة وعزْم روسيا بيع طائرات سوخوي لإيران، إلا أن هذا التطوّر لم ينعكس على الموقف الروسي من الضربات الإسرائيلية المستمرة لأهداف إيرانية في سورية، الأمر الذي يطرح السؤال عما إذا كانت محاصرة النفوذ الإيراني في سورية مصلحة لروسيا أم أن الأمر يدخل في حسابات روسيا كورقة دعم لعلاقاتها المتطورة مع الفاعلين العرب؟

حيثيات المشهد الميداني

صمَّمت إسرائيل استراتيجيتها الردعية لمواجهة النشاط الإيراني في سورية على مبدأ أن أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم، وقد أدارت صراعها مع إيران طوال أكثر من عقد وفق هذا المبدأ، بحيث لا تسمح لإيران بفرض معادلة ردع في الميدان تؤثر على الترتيبات الإسرائيلية.

من هنا، تؤكد تقارير إسرائيلية أن الأيام السابقة شهدت محاولات إيرانية للإخلال بمعادلة الردع، وقد توقفت الأجهزة الإسرائيلية مطولاً عندما أطلقت عليه “عملية مجدو” بعد تسلل مسلح من جنوب لبنان إلى منطقة الجليل الأعلى وتفجير نفسه بحزام ناسف، وهو ما رأت فيه إسرائيل خطراً إذا ما تحوّل إلى نمط يستخدمه حزب الله في المستقبل، بالإضافة الى كونه يشكل جرأة في تحدي الترتيبات الإسرائيلية في الشمال، وبالتالي فإن الضربات الإسرائيلية الكثيفة كان هدفها إعادة ترسيخ توازن رعب مقابل حزب الله وإيران.

ويبدو أن ثمة سبباً أساسياً مُلحّاً دفع إسرائيل إلى شنِّ سلسلة هجمات غير مسبوقة من حيث الكثافة والنطاق والقوة على الوجود الإيراني في سورية، يتمثَّل، بحسب ما أوردت القناة 13 الإسرائيلية، في إحباط هجوم إيراني يُعدُّ له باستخدام طائرات مسيرة من سورية، وإثباتاً لذلك استهدفت إسرائيل مطار الضبعة في حمص، والذي تستخدمه إيران لتركيب الطائرات المسيرة وتطويرها، كما استهدفت الضربات ضابطين إيرانيين، هما النقيب ميلاد حيدري والملازم مقداد مهقاني، في قيادة الحرب السيبرانية والإلكترونية التي تعمل في سورية تحت مظلة الحرس الثوري.

خيارات إيران

أثار اعتراف إيران بمقتل مُستشاريها قلق الدوائر الإسرائيلية من احتمال قيام إيران بالرد، أو ربما جرى اتخاذ القرار بالرد فعلياً، حيث لم يسبق أن صرحت إيران بخسائرها في سورية بالسرعة التي حصلت بعد مقتل ضباطها في سورية، وما زاد في القلق الإسرائيلي إدانة الحرس الثوري ووزارة الخارجية للهجوم وتوعدهم بالانتقام في الوقت والمكان اللذين تختارهما طهران.

وذهبت التقديرات الإسرائيلية إلى احتمال تنفيذ إيران هجمات ضد إسرائيليين في الخارج، باعتبار أن هذه الأهداف سهلة وفي نفس الوقت مؤذية لإسرائيل، فيما رجَّحت جهات أمريكية تنفيذ إيران هجوم ضد سفن إسرائيلية تجارية في مياه الخليج وبحر العرب، كما فعلت سابقاً، سواء باستخدام طائرة مسيرة انتحارية أو أسلحة أخرى، وبناءً على هذا التقدير أرسلت الولايات المتحدة الغواصة “يو إس إس فلوريدا” إلى المنطقة لردع إيران.

لكن إيران اتَّبعت حتى الآن خيارات، يبدو أنها ذات تأثير محدود لا تجعل المواجهة حتمية مع إسرائيل، فقد أرسلت طائرة مسيرة من سورية، أسقطتها إسرائيل على الفور فوق بحيرة طبريا، كما حاولت الإيحاء بأنها ستتبع سياقاً تصعيدياً أكبر تنخرط فيه جميع قوى محور إيران، وذلك عبر رشقات الصواريخ التي أُطلِقَت من جنوب لبنان، ومن سورية.

وبهذا، أثبتت التطورات الجارية أن الطرفين الإيراني والإسرائيلي غير مُستعدين لتطوير جولة الصراع الحالية إلى حرب شاملة؛ فالطرفان يعتقدان أنهما حققا أهدافهما. كما أنهما، وهو الأهم، أدركا أن هذه حدود ما يمكن أن يفعلاه في ظل التطورات الحاصلة في المنطقة والظروف الدولية المحيطة، ويمكن وصف ما جرى بأنه صراعٌ مضبوطٌ ربما كان الهدف الأساسي منه اختبار قدراتهما على المناورة في بيئة استراتيجية سريعة التغيّر.

الاستنتاجات

شكلت التفاعلات التي تنخرط بها سورية، وتلك الجارية في المحيط الإقليمي، مُحرِّكاً لجولة الصراع الأخيرة بين إسرائيل وإيران، في مسعى من الطرفين للتحوّط من المخرجات غير المرغوبة التي قد تُنتِجها العملية الجارية في المنطقة.

بيد أن الحسابات السياسية والأمنية لكلا الطرفين، فرضت عليهما التراجُع عن توسيع أُطُر التصعيد ومضامينه، بانتظار ظروف أخرى ومتغيرات جديدة، ما يعني العودة إلى المعادلة السابقة: استمرار إسرائيل في سياسات الاغتيال واستهداف شحنات الأسلحة، وقيام إيران ببعض الردود من جانب وكلائها الإقليميين. دون أن يعني ذلك تراجُع احتمالات الحرب الشاملة، التي أصبحت عُدَّتها الأيديولوجية جاهزة، في ظل سياسات حكومة اليمين الإسرائيلية، ورغبة إيران في استثمار هذه الأوضاع لتثبيت نفوذها في المشرق العربي.

السابق
في الذكرى الأربعين على لجنة المخطوفين والمفقودين.. «أحلام معلقة» للمخرج الراحل شمعون
التالي
الاتفاق السعودي-الإيراني: تحدي الانتقال من «الحرب الباردة» إلى «السلام الدافئ»